ثقافة وفنون

«سراب دجلة»… حين تكتب الغربةُ رسائلها إلى الذات الممزقة

«سراب دجلة»… حين تكتب الغربةُ رسائلها إلى الذات الممزقة

منير الحايك

يبحث من يعيش في الشتات، أو في المغترب، عن قصص من يشبهونه في تجاربهم الحياتية، فيخوض أحيانا تجارب كتابية، شعرية أو قصصية أو روائية، علّ هذه التجارب تقيه من شعور الغربة القاسي، أو من الصراع القائم بين الشخصيتين اللتين أصبحتا تشكلان حالا غير مستقرة بينه وبين نفسه، وبين بلاده، ومغتربه حيث يعيش ويعمل، وبينه وبين عائلته وأصدقائه ومعارفه جميعا، يحاول الكتابة من أجل وضع حدّ لذلك الصراع علّه يجد حلّا، أو يجد ذاته، ولكن الأمر أعقد من ذلك. وخالد عبد الجابر في روايته «سراب دجلة» (دار العين 2023) حاول أن يجد علاجا ما في الكتابة، وهو البعيد عن بلاده كحال ملايين المصريين، فكتب عن «صادق المصري»، الذي حمّله همومه الآنية، منتقلا زمانا ومكانا إلى العراق في منتصف الثمانينيات وحتى بداية التسعينيات.
تبدأ الرواية بالرسالة الأولى، من صادق إلى والده، وتتبعها رسائل أخرى متبادلة بين صادق ووالده محمد محفوظ المصري، نعرف معها بشكل سريع أسباب قرار السفر والعمل في العراق، ونعرف أن صادقا انتقل من العمل في المقهى إلى بيع الكتب، ومن بعدها تنقلنا الرواية إلى مصر، ويبقى التنقل بين قرية ونس النيل/دقهلية وبغداد، ولكن تنقلات الزمان وأحداثه تختلف وتعود إلى عام 67 حيث يكون محمد محفوظ المصري جنديّا مقاتلا مدافعا عن بلاده. ينقل صادق أخبار حياته الجديدة في رسائله وفي بعض المقاطع التي يكون فيها راويا عليما، ومعه والده محمد في الطريقة نفسها، ويتخلل ذلك ظهور لزينب الأم، وعزيزة الأخت، الأخت التي تكون قصتها مسيطرة في عدة مواضع، وهي التي تُحرَم من الزواج من خضر ابن عمها، بسبب الخلافات العائلية، ولكنها تعود إليه، بعد طلاقها، بعدما يكون قد فقد عقله في نهاية الرواية، ومع عودة صادق إلى بلاده بعد معاناة طويلة…

في فصل الرواية الأول، وبعد قراءة الرسائل الأولى، تنقلنا الرواية إلى الأحداث التفصيلية لما حدث ويحدث مع محمد المصري، ومشاكله مع أخيه، من خلال تفاصيل واقعية، نعرف معها قصة عزيزة وخضر، ونعرف قصصا كثيرة أخرى، ولكنها كلها تبقى ضمن المتوقَّع… وفي الفصل الثاني ومع عودة قصة صادق في الغربة، يأخذ السرد منعطفا آخر، ولكن الأسلوب يبقى متشابها..
الرواية فيها من صدق التجربة، السياسية والشعورية والحياتية الكثير، تظهر منذ صفحاتها الأولى، فالكاتب كان لديه همّ «المغترب» الذي يريد أن يكتب ليظلّ ممسكا بزمام أمور نفسه ليعطيها حقها بالوجود والحياة، بوصفه الإنسان ذا القيمة بذاته، المواطن المصري المنتمي والفخور بهذا الانتماء، يحكي لنا قصص أبطال الـ67 والـ73 وما رافقها وما تلاها، ويصل بصادق إلى قرار السفر، من أجل إعادة الأرض لأبيه وعائلته، الأمر الذي لا يتحقق أبدا، وهنا رمزية أن اللجوء إلى حلول بعيدة عن الواجهة المباشرة من أجل الدفاع عن الحق والحصول عليه، لن تكون حاملة لحلّ نهائي دائما، فها هو صادق يغترب ويعاني، ولكن الأرض لا تُسترجَع، ويموت والده بحسرته بسبب خوفه على ابنه الذي ما عاد راسله، وظنه ميتا، وحقه في أرضه، وطلاق ابنته… وكل ما جاء من تفاصيل ارتبطت بهذه العائلة تحديدا.
قدّمت الرواية قضايا عديدة أدخلت المتلقي في تفاصيل حياتية يعيشها أبناء الريف المصري، ولكنها لم تكن بالعمق المطلوب، إن على صعيد الشخصيات وتتبع أحوالها وأبعادها وعمقها الإنساني، وإن على صعيد الأحداث وربطها وتعقيدها من أجل خلق حبكة قوية، وإن على صعيد الرموز أو التحليل، أو غيرها مما يعطي النص الروائي عمقه وقيمته، والجدّة التي يبحث عنها المتلقي، فكانت الأحداث، على الرغم من سلاسة اللغة وعذوبتها ومتانتها، متوقَّعة وسطحية أحيانا، السرد فيها سلس وجاذب، ولكن العمق المطلوب كان يمكن أن يُشغَل بشكل مختلف.

هي رواية لكاتب صاحب همّ اجتماعي، وهمّ شخصيّ في آن معا، لم يفتح أبوابا متعلقة بمحاسبة الأحداث المفصلية من تاريخ البلاد، ولم يفتح أبوابا متعلقة بمحاسبة الواقع الاجتماعي المتخلف والرجعي، ولكنه طرق تلك الأبواب، ووضع المتلقي أمام الأحداث كما هي، فعزيزة تطلَّق في النهاية وتتزوّج من أحبت، وصادق يعود، ومحمود المصري نقرأ رسالته التي لم تصل بعد حروب الـ67 والـ73 التي ترك عائلته من أجلها، قدّم لنا النص الأحداث، وجعلنا نمسك خيوطا ما لنفكّر بما حصل، ولكنه لم يبدأ بالمحاسبة، بل ترك للمتلقي القرار، حاسب إن أردتَ، أو برّر لما حصل ومن كان مسؤولا، فهذا شأنك.
رواية «سراب دجلة» محاولة جادّة لكاتب مثقّف، يبحث كثيرا ويتابع النتاج الأدبي المصري، والعربي، ويريد أن تكون له مكانته ضمن هذا النتاج، قدّم نصّا بلغةِ سارد ماهر، ممتلك أسلوبا خاصّا سلسا وجذلا، عاد بالزمن وبحث وبنى روايته على أسس أحداث تاريخية متفرّدة، خصوصا ما حصل للشباب المصريين في العراق، قبيل حرب الكويت وأثناءها، ولكن نصّه ما زال بحاجة إلى الدخول بعمق أكثر في كلّ خفايا مكوّنات النص السردي، وتشكيل علاقات أكثر نضجا بين تلك المكوّنات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب