
الأب الرمزي: السياسة في الثقافة السورية

نور حريري
لا ينفصل اهتمام السوريين بالأيديولوجيا عن واقعهم الثقافي المعقد والمتنوع طائفيا وإثنيا وقوميا. فقد جاءت معظم الدراسات والترجمات التي تناولت موضوع الأيديولوجيا من سوريا تحديدا. وبين البحث الجاد والاستخدام العشوائي، تحول مصطلح «أيديولوجيا» ومعه مصطلح «طائفية» إلى شماعة يُعلق عليها الفشل النظري في فهم الانقسامات الثقافية بين السوريين، ليُختَزَل السوري في خانة «طائفي» أو «غير طائفي»، «مُعارِض» أو «مُوالٍ»، وكأن المعارضة والموالاة تنبعان دائما من نقطة واحدة وبطريقة واحدة. والأدهى من ذلك أن شعار «لا للطائفية» صار مشتركا بين أطراف متناقضة، الشعب المنتفض على نظامه، النظام القامع لشعبه، بل حتى بين طوائف تتصارع في ما بينها، كل يرفعه ضد الآخر.
منذ الطفولة، يجد السوري نفسه داخل دائرة السياسة، حتى قبل أن يتشكل وعيه السياسي. فيصبح تلقائيا جزءا من نظام رمزي، قد يكون عائليا أو دينيا أو سياسيا مباشرا، يتحدد من خلاله موقعه الاجتماعي وعلاقاته بالآخرين، إضافة إلى علاقته بما يُعرف بـ»الأب الرمزي». هذا الأب الرمزي هو مَن يمنح الاعتراف للفرد داخل الجماعة. ففي الأنظمة الاستبدادية، يتجسد الأب في شخصية القائد، بينما في السياق الديني، يُمثل الله عبر النص الديني مصدر الاعتراف. لدى بعض الطوائف، تتوسط المرجعيات الروحية والسياسية لتؤدي هذا الدور.
تتشكل الهوية من خلال خضوع الفرد للأب الرمزي وقوانينه المفروضة. غير أن فرض القوانين يكون عبر ما يُعرف بـ»التهديد بالنبذ»: «أطع الدين وإلا فأنت فاسق»؛ «أحب الرئيس وإلا فأنت خائن». المشكلة تبدأ حين يتصادم أب رمزي مع آخر، فتتناقض طاعة الأب الديني مع طاعة الأب القائد أو الأب العائلي، عندها تنهار «الاستمرارية» في المنظومة الرمزية، ما يفضي إلى نبذ مباشر لأحد الآباء. فمثلا يسهل في البيئات الأقل تدينا قبول الأب القائد، حيث يضعف دور الأب الديني، بينما يصعب ذلك في البيئات الأكثر تدينا، ما يؤدي تلقائيا إلى نبذ القائد واختيار الدين، أو العكس، وانقطاع الاستمرارية بينهما.
يتضح ذلك مثلا في بعض البيئات السنية الريفية، حيث يترافق الشعور العميق بالتهميش الاجتماعي أو الاقتصادي، مع نبذ رمزية «الأب الرئيس» لصالح «الأب الديني». غير أن هذا النبذ وحده ما كان ليتحول إلى فعل سياسي وعسكري دون توسط الأب الديني. فالدين هو الذي يمنح النبذ شحنته، والمعارضة شكلها، والعَسْكرة قوتها. أما في بعض أرياف الساحل العلوية الأقل تدينا، ورغم وجود تهميش اقتصادي مماثل، فإن نبذ رمزية «الأب القائد» لا يمكن أن يظهر بشكل واضح، وذلك بسبب غياب «الأب الديني» القادر على إنتاج رمزية مضادة تمثل نقيض السلطة السياسية وتشحنها بالقوة، لتُتَرجَم في فعل سياسي أو عسكري، ما جعل المعارضة السياسية العلوية فردية أكثر منها جماعية ذات طابع واضح. بصرف النظر تماما عن تأييد الأسد بالمعنى الصريح، أو الخوف من التصدي له. يختلف الوضع في أرياف وبلدات أخرى أقل تدينا، حيث تمتلك الجماعات رموزا ومرجعيات خاصة بها، كما هي الحال لدى الإسماعيليين والدروز والكرد، الذين يملكون بنى رمزية مستقلة. الأب الديني، أو القومي لا يعترف بالأسد كـ»أب رمزي» ويتصدى له باستمرار، لذلك لم يستجيبوا بسهولة لخطاب «القائد – الأمة-الوطن»، ما أنتج معارَضة سياسية أقل حدة من غيرها. ولهذا السبب عرضهم الأسد لعقوبات واعتقالات، حتى عندما عقد بعض مشايخهم ووجهائهم تحالفات مؤقتة مع النظام، لم يتحول ذلك إلى قبول للأسد كقائد مقدس.
على عكس الدروز والإسماعيليين الذين دخلوا في صراعات سياسية مبكرة مع السلطة المركزية (الدولة الفاطمية، الحروب مع الموارنة، ثورة جبل لبنان)، يفتقر العلويون إلى المؤسسات السياسية المنظمة. فبسبب التهميش الشديد، والتشتت الجغرافي، ظل العلويون منقسمين بين عشائر صغيرة، تتمتع كل واحدة منها بزعيم يملك نفوذا محدودا، ما حال دون تكوين سلطة مركزية أو مرجعية دينية موحدة، يمكنها أن تصوغ خطابا جامعا للطائفة. هكذا، ظلت البنية الاجتماعية العلوية عشائرية، ولم تنتج طائفية – مذهبية منظَمة. ولذلك، كان العلويون أقل قدرة من غيرهم على التفاوض السياسي والدفاع عن مصالحهم، خلال العهد العثماني والانتداب الفرنسي، ورغم أن البنية الاجتماعية الدرزية عشائرية أيضا، فإن توسط «الأب الديني» والتنظيم السياسي، حجّم الخلافات العشائرية.
مع صعود الحركات القومية والاشتراكية، كان العلويون من أوائل المنخرطين فيها، ليس هربا من التهميش الاقتصادي والاجتماعي وحسب، بل أيضا تعطشا إلى انتماء وطني يتجاوز الطائفة الضيقة التي تفتقر للتمثيل الديني والسياسي. لكن هذا السبب نفسه، أي غياب المركزية الروحية السياسية، جعل هويتهم تبدو كفراغ ينتظر الملء، عندما استولى الأسد على السلطة، كان الواقع الثقافي ناضجا بما يكفي ليتقمص الأسد دور «الأب الرمزي»، ويملأ الفراغ في ظل غياب أي مرجعية روحية علوية تتصدى له، ما سهّل عليه دمج العلويين رمزيا في بنيته، قبل دمجهم عسكريا وأمنيا، والحق، كان البعث يضم أغلبية من الشباب العلويين قبل الأسد، وكان الجيش مكونا من علويين فقراء وجدوا فيه بديلا مجانيا للتعليم، في حين ابتعد أبناء المدن عنه، مفضلين مهنا أكثر استقرارا وربحا. كما شهدت صفوف الضباط السنة انقسامات سياسية، انتهت بتصفية الجماعات السنية بعضها بعضا (أتباع عبد الناصر، أمين الحافظ، وأكرم الحوراني)، ما قلص عددهم في الجيش.
أما في البيئات السنية في المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب، يضعف الصراع بين «الأب الديني» و»الأب السياسي»، ويبرز دور «الأب العائلي» الذي يتحرك ضمن الطبقة الاجتماعية والاقتصادية، بوصفه الطرف الأساس في العلاقة مع السلطة. هنا، تتحرك العائلات بدافع مصالحها الخاصة، فتدخل في صراع أو تفاوض فردي مع السلطة السياسية أو الدينية، بهدف الحفاظ على استقلاليتها وملكيتها، حيث الولاءات الطبقية والعائلية هي الأساس في تنظيم العلاقات. فيغدو موقف المعارضة أو الموالاة أقل شدة وتمايزا، ويقل الخوض المباشر في السياسة أو الدين. أشار مستشرقو القرن الثامن عشر والتاسع عشر إلى تحفظ ملحوظ لدى سكان المدن السورية إزاء القضايا السياسية، إذ يفضلون الصمت أو الحديث بعموميات.
بقيت مشكلة نظام الأسد الاستبدادي أنه عجز عن إنتاج خطاب وطني جامع للسوريين. من محاولات دمج العروبة بالإسلام في خطاب بعثي، مرورا بأسطورة «الجيش العقائدي»، إلى الشعارات الجهوية لكسب الولاءات، ثم خطابات مقاومة الإمبريالية والاستعمار، بقي خطابه فوقيا لا يمس الناس، حتى كشف عن وجهه بشعاره الأصدق «الأسد أو نحرق البلد». مع اندلاع الثورة السورية، بدأت تلك الشعارات تتهاوى، وتوالت الجماعات تنكرها تدريجيا، كل جماعة حسب موقعها الموروث منذ الولادة، وقلة بدافع الوعي والموقف الأخلاقي، وظل آخر المتمسكين بها هم المنتمون إلى بنية «الأب القائد».
إن غياب مرجعية دينية علوية، تحمي الطائفة وتمثلها، جعل فئة من العلويين أكثر ميلا إلى تصديق الخطابات الصادرة عن «الأب القائد» والتماهي مع «بنيته الرمزية»، وليس مع القائد نفسه. في المقابل، كانت الجماعات الأخرى أكثر مقاوَمة لهذه الخطابات، إذ نراها تضبط انخراطها فيها، بسبب حساسيات التعارك الرمزي، وسط تداخل الدين والعائلة والطبقة. ويتجلى هذا التماهي أيضا في اندماجهم رمزيا بالشيعية والصفوية، رغم التباينات المذهبية العميقة. وينطبق الأمر ذاته على علاقتهم بالأحزاب الشيوعية؛ فرغم تراجع الفكر الماركسي في مناطق عدة، ظل أكثر رسوخا بين العلويين للأسباب ذاتها. وفي ظل هذا الفراغ الرمزي، كثيرا ما حلّ «الأب الثقافي» محل «الأب القائد»، من خلال تقديس شخصيات ثقافية وفنية مختلفة، في ظاهرة نادرة يصعب العثور على نظير لها في بيئات أكثر تدينا.
أسس هذا الخطاب الأعمى «استمرارية» متخيلة تربط بين الأب، القائد، الوطن، وفلسطين، والعالَم متحررا من الإمبريالية، وتجلى ذلك في أدبيات رومانسية، حتى بلغ من التطرف، حد التوازي مع خطاب معاكس، إسلاموي متطرف، يقوم على «انقطاعات» بين العائلة، الوطن، وفلسطين بسبب توسط «الأب الديني» بنسخته المتشددة والعنيفة، التي تُخضع كل شيء لما هو ديني. فينتج ما يُسمى بالذات الهستيرية، حيث ينفجر الكبت مصحوبا بعنف أعمى جماعي.
تولّد جميع الخطابات السابقة ما يُعرف بـ»الاستمتاع بالواجب»، ما يجعل الفكاك منها صعبا. أوضح المحلل النفسي لاكان في مقالته «كانط مع ساد»، أن الأخلاق المبنية على الواجب تتقاطع مع الخطاب السادي. فتظهر المتعة أحيانا بأشكال مازوخية (نحن مستعدون للموت من أجل القائد)، أو بأشكال سادية في الحالة الثانية (بدنا ننتقم ونبيد). مواقف الولادة لا تنفي المواقف السياسية الواعية، لكنها تتداخل معها وتؤثر في طريقة ظهورها. فلا أحد يولد خارج البنية الرمزية، ولا أحد يعيش بلا آباء رمزيين. ولا أفضلية لبنية على أخرى إلا بالأثر الذي يتركه القرار الواعي. وربما تكون أعظم ثوراتنا قراءة صادقة لبنية تختلف عن بنيتنا.
كاتبة سورية