وأين أنت بين المشروعين الصهيونيّ والغربي؟!

وأين أنت بين المشروعين الصهيونيّ والغربي؟!
مصطفى محسن اللواتي
قبل أيام، مرّ عليَّ مقالٌ لكاتبٍ خليجيٍّ يدّعي الاعتدال، ويُحاول أن يُظهر نفسَه كذلك. المقال كان عن سؤال: «أين نحن من المشروعَيْن الصفوي والصهيوني؟». ولأنّني كنتُ مشغولاً جدّاً بأيّام عاشوراء، في «العزاء الصفوي» الذي يَحلو لكثيرين تسميتُه هكذا – ولا أستبعد أن يكون صاحب المقال أحدهم – لهذا أخّرتُ كتابةَ تعليقي إلى حين الانتهاء من مراسيم تلك الأيّام العصيبة، التي مرّت على أهل بيت النبوّة، وآذت قلبَ رسول الله (ص)، كما تُؤذيه هذه المقالات التي تَدسُّ السُّمَّ في العسل، وتُحاوِل تفريق الأمّة كلّما زادت فُرصُ تلاحمِها.
تاريخُ المقال مشبوهٌ جدًّا، فقد نُشِر في 14 حزيران الماضي، بينما الكيان اللقيط بدأ بضرب إيران في 13 حزيران. والمقال مادّتُه مكرّرة ومُعادة ولا جديدَ «فيه البرّ» (على قولة العُمانيين)، وكلُّ مَن سيقرأه سيستغرب أن يصدر من هكذا كاتبٍ مثل هذه المادّة التي أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها «أجندة» وراءها ما وراءها. الجديد الوحيد الموجود في المقال هو أنّه صَدَر من هذا الكاتب الذي يدّعي الاعتدال والتسامح.
ما هو المشروع «الصفوي»؟ سؤالٌ أودّ فعلاً معرفةَ إجابته، لأني أسمعه مراراً وتكراراً، ولا أستوعبه إطلاقاً. حينما نقول المشروع الصهيوني، فالموضوع واضحٌ جدّاً؛ فهذا التمدُّد، والأطماع، والمجازر، والاحتلال، والإبادة الجماعيّة، والتطهير العِرقي، والفصل العنصري… إلخ، كلّها تدلّ على وجود مشروعٍ واضحِ المعالِم. الدولة الصفويّة كان لها وجودٌ في التاريخ، وحكمت إيران لحوالى 235 سنة تقريباً، وانتهت عام 1736 م، أي قبل حوالى 290 سنة، أي قرابة ثلاثة قرون.
النُّكتة التي يتجنّب الطائفيّون ذكرَها، أنّ الصفويّين كانوا أتراكاً سُنّة، وأنّهم بأنفسِهم، وبإرادتهم، ورغبتهم، اختاروا المذهب الشيعيَّ واعتنقوه، و«بفضلِهم» أصبحت إيران دولةً شيعيّة، ساعدهم في ذلك انتشار الطرق الصوفية التي تأخذ من الإمام علي رمزاً أعلى لها في سلسلتها التراتبية.
طبعاً هذا لا يعني أنه لم يكن في إيران حركة تشيّع، بل كانت في إيران إمارات شيعية متفرقة، أو مناطق ذات غالبية شيعية قبل الحكم الصفوي، في الري وكرمان وجيلان وقم. فمثلاً، مدينة قم كان بها تشيّع عريق، حيث هاجرت إليها قبائل الأشعرية من الكوفة، كما إن الريّ كان بها تشيّع وإليها ينتمي الشيخ أبو جعفر الكليني الرازي، مؤلف أحد أهم أربعة كتب حديثية عند الشيعة وهو «الكافي».
والمعروف أن في إيران القرن الثالث الهجري قامت في بعض أقاليمها دول شيعية كما في طبرستان (محافظة مازندران حالياً) حيث قامت الدولة العلوية، وقامت الدولة البويهية في القرن الرابع الهجري في العراق وكانت إيران في مناطق نفوذها، وكذلك الحركة الإسماعيلية بعد انهيار الفاطمية في القرن الخامس الهجري. لكن حديثي مختصٌ بالصفويين وبالسلطة الرسمية في إيران، وهم فعلياً أول من أعلن أن إيران شيعية بالكامل.
ثلاثة قرون بعد الصفويّين كانت كفيلةً أن تتعاقب على إيران سُلالاتٌ مختلفة، مثل: الأفشاريّة (وهم من أصول تركمانيّة)، وسلالة الزَّند (وهم أكراد)، ثم القاجاريّة (وهم تُركمان)، ثم البهلويّة (وهم فُرس)، وأخيراً النظام الإسلامي، وكلُّ هذه السُّلالات اختارت أن تظلّ على المذهب الشيعي، رغم تغيّر حكّامها وأنظمتها بالكامل. من المعروف تاريخيّاً أنّ الأفشاريّة كانت لهم أطماع توسّعيّة كبيرة، ولا يأتي ذِكرُهم على ألسنة الكُتّاب، ومنهم صاحبُنا صاحبُ المقال. والبهلويّة سلّموا «الخيط والمخيط» (على قولة الكويتيين) لأميركا، وبنَوا علاقاتٍ إستراتيجيّة عميقة مع الدولة اللقيطة، وأيضاً لم يتعرّض لها أحد، لا بألسِنةٍ حِداد، ولا بكيبورد أنيق، ولا بأقلام حِبرٍ جاف.
أمّا «الصفويّون» فقد ثبت تاريخيّاً أنّهم لم يكونوا إمبراطوريّةً توسّعيّةً بالمفهوم الاستعماريّ الحالي، بل كلُّ توسّعاتهم كانت على أراضٍ ذات نفوذٍ عثمانيّ، وبسبب الصراعات مع الدولة العثمانيّة. في حين كانت الدولة العثمانيّة توسّعيّةً بشكلٍ كبير، واستعملت القوّةَ المفرطة مع دول سُنّيّة، وسيطرت على عشرات من هذه الدول بالاحتلال المباشر، وعشراتٍ أخرى بالتبعيّة السياسيّة، وبمجرّد نظرةٍ سريعة سنجد أنّ 16 دولة احتلّتها الدولة العثمانيّة تراوحت فترات احتلالها بين 530 سنة إلى 280 سنة، وهي: سوريا، العراق، فلسطين، لبنان، الأردن، مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، اليونان، بلغاريا، البوسنة، ألبانيا، صربيا، كوسوفو، مقدونيا، رومانيا.
ناهيك بالدول التي احتلّتها أقلّ من 200 سنة.
النظام الإسلاميّ كان أوّل نظامِ حُكمٍ في إيران يعتمد الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة، ويتقاطع مع الغرب بعد علاقاتٍ حميمة من أيّام القاجاريّين، وهو أوّل نظامٍ يمدّ يده للفلسطينيّين، تمويلاً، وتسليحاً، وتدريباً، ودفعَ في سبيل ذلك أثماناً باهظة من رفاهية شعبِه، ومن آلاف الشهداء، ومن مقاطعةٍ استمرت منذ قيام الثورة وإلى الآن.
استحضرتُ هذا التاريخ بعُجالة لأصلَ إلى سببِ استدعاءِ «الصفويّة» كوصمةٍ يُضرَب بها النظام الإسلاميّ في إيران. فالعداء مع الصفويّين كان له سببان: أوّلهما أنّهم كانوا السّبب في تشيُّع إيران كلّها، وثانيهما، أنّ الصفويّة كانت السدَّ المنيع لتأخير أو منع توسُّع الدولة العثمانيّة. وكما نرى، كلا السببين منطلقُهما طائفيٌّ بحت.
والآن، ولمنع أيّ التفافٍ شعبيٍّ عربيٍّ/ إسلاميٍّ حول الجمهورية التي تُناهض كلَّ مشروعٍ غربيّ، وبعد أن اكتسبت هذه الدولة شعبيّة فائقة نتيجة الإنجازات التاريخيّة التي حقّقتها من دكِّ الكيان الغاصب، وإرغامها على طلب وقفِ الضربات، كان لا بدّ من استدعاء العداء الطائفيّ القديم ضد إيران، ولا أفضل من مصطلح «الصفويّة» لِدَغدغة مشاعر الجماهير التي بدأت ترى في إيران مشروعَ مقاومةٍ حقيقيّاً ضد الغرب والصهاينة.
أين هو التمدّد «الصفويّ» الذي تراه عينا الكاتب، ويُحجَب عنّا؟! هل هاجمت إيران بلداً عربيّاً أو أجنبيّاً؟ هل اكتشفت أيٌّ من دول الجوار جواسيسَها هنا وهناك؟ هل قامت بأعمالٍ إرهابيّة؟
حقيقةً، هي طامّة حينما يتحدّث المرءُ عمّا لا يعيه، ويكتب شيئًا لا يُدرِكه أو يفهمه. في حين، الدولة التي احتلّت دولاً سنيّةً بالعنفِ والقتل، وارتكبت فظائعَ يندى لها جبينُ الإنسانيّة، يُسمّيها دولةَ الخلافة العثمانيّة! كم هو عجيبٌ هذا التناقض، وهذه الازدواجيّة، وهذه الطائفيّة!
وأستغربُ منه ذِكرَه لـ«سايكس-بيكو» من دون أن يذكر أنّه مشروعٌ غربيٌّ أو أميركيٌّ أو حتى «صليبيّ»، ليتساوى الجميعُ في البدء بحرف الصاد، وليَكسَبَ صاحبنا حقَّ السَّبْق في اكتشاف هذه الثلاثيّة «الصاديّة»!
والاستغراب الآخر: ذِكْرهُ أين مشروعنا الإسلاميّ والعربيّ؟ أليست إيران دولةً إسلاميّة؟! وما دمتَ تذكر أنّ لها مشروعاً صفويّاً، فإذاً هناك مشروع إسلاميّ صفويّ موجود! ثمّ لماذا لم يذكر المشروع العثمانيّ الإردوغانيّ؟! أم أنّ هناك باءً تجرّ، وأخرى ترفع؟! معذرة، نسيتُ أنّها «دولة الخلافة». أليس لسوريا الحاليّة «مشروعٌ أمويٌّ» إذا أردنا أن ننحو منحى منطق الكاتب؟! ثم لنرجع عدّة قرونٍ للوراء في كلّ دولةٍ عربيّةٍ وإسلاميّة، لنستخرج من تاريخها مشاريعها البائدة، وسنتوصّل أنّ هناك دولاً لم يكن لها وجود، ولا بدّ من إرجاعها إلى ما كانت تنتمي إليه.
وإذا أردنا أن نجاري هذا «المعتدل» في طريقة حديثه الطائفيّ، أليست الديكتاتوريّات التي ذكرها نِتاج دولٍ وعقليّاتٍ وعلماء دينٍ كلّهم لا يمتّون للصفويين بصلة؟ أليس الخنوع الذي نعيشه هو من فتاوى رسمتْها دول «الخلافة» كما يُسميها، ابتداءً من الأمويّين إلى ما نعيشه من واقع الديكتاتوريّات التي عدّدها في مقاله؟
ولكن، أربَأُ بنفسي أن أنزل لهذا المستوى من الخطاب، وأنا ابنُ وطنٍ يجمع المسلم بغير المسلم، فما بالُنا ونحن كلُّنا مسلمون؟! هذا الخطاب الطائفيّ كان هو المدخل لما سمّاه الكاتب بـ«التفريط بالكرامة»، و«الهويّة المهدومة»، و«السلام الكاذب»، و«الواقعيّة السياسيّة»، وهو الخطاب نفسه الذي سلّط علينا الديكتاتوريّات القمعيّة وغيرها. لأنّ مثل هذا الخطاب فرّق الأمّة كلَّها، ومثل هذا الخطاب أسّس لأبشع أنواع الصراعات الداخليّة، التي شغلت الشعوب عن عدوّها الحقيقيّ، وخلقت لها أعداءَ لا وجود حقيقيّاً لهم، بل كانوا ويظلون عمقاً، وإخوة كان يمكن أن نتكاتف معهم لنكون «صفّاً كالبنيان المرصوص»، وحينها فقط نستطيع أن نتحدّث عن الكرامة، وعن مشروعنا الإسلاميّ الموحَّد. الغريب، أنّه وصل بنا الترهُّل الطائفيّ، والانزلاق الفكريّ، إلى وضع إيران والصهيونيّة في خانةٍ واحدة!
نحن الآن نعيش بين فكرتين أو مشروعين أو مذهبين:
– مقاوم للمشروع الصهيوني وللصهيو غربي.
– ومطبّع مع المشروع التغريبي التصهيني.
وابتداع مشاريع أخرى لإغراق الأمة في وحل الخلافات لا يصب إلا في مصلحة المشروع الثاني.
ولنراجع أنفسنا إلى أين نريد أن نصل بهذه الأمّة المغلوبة على أمرها؟ كلٌّ يريد اللعب بوعيها ووجدانها لجرّها يميناً وشمالاً كما يشاء.
ثمّ ماذا؟ هل الهدف إشغال شعوبنا بحروبٍ طائفيّةٍ طاحنة؟أم جعلها تكفر بالدّين كلّه؟! ألا يكفي ما فعلته «داعش» والحركات الإرهابيّة التي تلفّ لفَّها، من تشويهٍ للإسلام الحنيف؟!
اللعبُ على وتر الطائفيّة، والرهانُ على جهلِ الأُمم، أصبحت أموراً مستهلَكة، وفائضةً عن حاجات الشعوب، والتاريخُ علَّمنا أنّ كلَّ مَن استعمل هذه الأنواع من الأسلحة أصبح نَسْياً منسيّاً، وبقي العظماء ممّن قدّم – ولا يزال – دمَه في سبيل قضيّة حقّ، كما يفعل أهل غزّة، وأبطال اليمن، ومقاومو جنوب لبنان، وشرفاءُ الأمّة ممّن يرفضون الدخول في هذه التُّرّهات والسفاسف، ويدعمون كلَّ شريفٍ يُقاوِم الصهاينة والغرب.
وأجيبُ عن سؤال الكاتب في آخر المقال: «هل لدينا مشروع؟». نعم. لدى شرفاء المسلمين مشروع تحرير؛ تحرير فلسطين، وتحرير العقول من التبعيّة التي تستنكرها. ولديكم – للأسف – مشروعٌ اسمه: الطائفيّة.
* كاتب عماني