ثقافة وفنون

المقتلة السورية: سيرة عائلية!

المقتلة السورية: سيرة عائلية!

حسام الدين محمد

بعد حفل تشكيل الحكومة في آذار/مارس الماضي، أوقف شيخ من عشيرة الشنابلة يدعى سعود النمر، الرئيس السوري أحمد الشرع واشتكى بصوت عال من تهميش السويداء قائلا، إن فيها مثقفين وشخصيات على كفاءة عالية. أجاب الشرع بأن السويداء لم تهمّش وأنها تمثّلت بوزير. ما قصده النمر، طبعا، أن الوزير ذاك لم يمثل العشائر غير الدرزية، التي تقيم أيضا في السويداء، وهو أمر تمّ التعبير عنه، في معارك الأيام الماضية، بالرصاص والمدافع والخطف والقتل، وليس بإعلان المظلومية والتهميش فحسب.
كان أصدقائي الأقربون، منذ انتقلت الى بريطانيا – قبل أكثر من ربع قرن – وبعدها أصدقاء زوجتي وأولادي وعائلتي الموسعة، من الدروز. تشاركنا الخبز والملح والأفراح والأتراح، والآراء السياسية والشخصية، وامتزجت حيواتنا بحيواتهم، وصرنا وإياهم نموذجا مصغّرا لفئة من الجالية السورية في بريطانيا.
كانت الكوارث التي تعرّض لها السوريون، على مدار حكم الأسدين، تجمعنا، وكان بعض هؤلاء الأصدقاء، قد فرّ، بعد مطاردة من النظام (مثل الصديقة سلام)، وحين بدأت الاحتجاجات المعارضة في عام 2011، كان بعضهم ناشطا ضد النظام داخل سوريا، مثل صديق رأيناه ونحن نتابع الأخبار على التلفزيون حين ظهر وعناصر الأمن يزجون به في حافلة للتحقيق معه فقلنا هذا أحمد.
أصبح آل القاسم ورضوان وحجاز وحاطوم والعربي وقطان، وبعدهم أصدقاء وشركاء في الفكر والأدب والفن والصحافة من آل عزام والحناوي والجباعي وزين الدين ومسعود والمحيثاوي وشمس وآخرون كثر، بضعة من نسيج عائلتنا الأهليّ، أو من معارفنا الذين نتداعى الى بيوتهم، أو نعمل أو نتواصل معهم، بحيث ما كان من الممكن لنا، كأفراد وعائلة، إنشاء سيرنا الخاصة، ولا مستقبلنا كبشر وكسوريين من دونهم.

لقاء مع الشهيد تامر العوّام

مع نشوء مؤسسات تسعى لخلق نظام مدني للثورة، مثل مؤتمر المعارضة الأول في أنطاليا (أيار/مايو 2011)، الذي التقيت فيه بواحد من أوائل الشهداء السوريين من الدروز، وكان المخرج السوري تامر العوام الذي قتله نظام الأسد في حمص، ولقاء «كتاب وفنانون سوريون مع الثورة» في الدوحة 2012، ومؤتمر رابطة الكتاب السوريين في القاهرة 2012، توسّعت علاقات الكتاب والمثقفين والإعلاميين والناشطين من مجمل الجغرافيا السورية، وتوطدت معرفتي بكتاب ومثقفين وإعلاميين من السويداء، أضافت الكثير على حياتي ومعرفتي بسوريا والعالم. وحين ضربت الهزائم الثورة السورية، وتوالت النكبات عليها، وبدا أن نظام بشار الأسد قد بدأ قطع رحلة العودة للمنظومة العربية والعالمية، وأصيبت نسبة كبيرة من السوريين بالإحباط، كانت مظاهرات ساحة الكرامة في قلب السويداء، الشعلة الباقية التي يهتدي بها السوريون، ويخافون أن تنطفئ فينحسر معها ما بقي من آمال «الشعب السوري الواحد».
ما جعل العلاقات تتمتّن بين عائلتي وهؤلاء الأصدقاء، وتصبح أشبه بالقرابة هو تقارب الثقافات: الانفتاح على العالم والآخر والليبرالية الاجتماعية، والتوق إلى عالم أفضل أخلاقيا وسياسيا. صرت بهذه العلاقات، إلى حد ما، درزيا، وصار أصدقائي أولئك على المقلب الآخر، كانت قراباتي من جهة أبي تضمّ قرابات مع الكرد والعشائر والمسيحيين، وحين دفعني فضولي لتحليل جيناتي قبل سنوات، اكتشفت، بطبيعة الحال، أنني أنتمي إلى بركة واسعة من الشعوب تقع في مركزها بلاد الشام، ولكنها تمتد أيضا بين وسط آسيا وجنوب افريقيا، وهو أمر، أعتقد أن الدروز، رغم أنهم قبيلة واسعة، تمتنع دينيا عن التصاهر مع الأديان الأخرى، يشتركون فيه مع أغلب سكان البلاد.
تشاركنا، على أي حال، أنا وهذه الدائرتين، الصغيرة والموسعة، من الأصدقاء، على مدار الملحمة السورية الكبيرة، فواجع السوريين وآمالهم بدولة مستقرة وآمنة لجميع أبنائها، بغض النظر عن منابتهم وثقافاتهم وأديانهم، والآن، في هذه المقتلة الدموية التي تعرّضت لها السويداء، وجدت لزاما عليّ، كصديق، أن أشاركهم آلامهم، وأحاول، إن استطعت، المساعدة، أقله بالنطق، الذي يسعد، إذا لم تسعد الحال، كما يقول المتنبي، مركزا على الجانب الإنساني ومتجاهلا القضايا السياسية الشائكة. أعاد ما حصل في السويداء مؤخرا مشهد الكارثة الهائلة التي تعرّض لها المجتمع السوري، خلال سنوات النظام السابق، واستعاد السوريون، كل من موقعه في المعادلات الاجتماعية والأيديولوجية، مشاهد الإبادة والقتل الجماعيّ والتطهير العرقي (جعل المجتمع السوري متجانسا، على حد تصريح بليغ للأسد) التي اعتقدنا أنها صارت خلفنا.

نحن الضحايا / نحن الأقوياء

بعد سقوط نظام الأسد، أخذ شعور القوة الفائضة للديموغرافيا «السنّية»، يتضافر مع الرعب من عودة «فلول» النظام، والرهاب من الطوائف، ومع تحوّل سوريا من كارثة إقليمية خلال حقبة الأسد، إلى إمكانية كبرى لحلّ «المسألة السورية» في ظل الحكومة الجديدة، افترضت السلطات الجديدة، على ما يبدو، أن انفتاح الأبواب العربية والأجنبية يمكن أن يغنيها عن الانفتاح على الدروز والعلويين والكرد، وعن الخطوات الجدية في ما يتعلق بالحوار الوطني والإعلان الدستوري. أحد هذه الأبواب الخارجية، التي تم الانفتاح عليها من قبل السلطة الجديدة كانت إسرائيل، وهو أمر يرتبط، وجوديا وسياسيا، بمحاولة سلطة هشّة ضعيفة لوقف الهجمات على شعبها وأراضيها، من دون أن ينفصل، طبعا، عن كونه محاولة للتصدّي لـ»الحالة الإسرائيلية»، المتمثلة في قوى عسكرية درزية تحتمي، في ظل المعادلات والمخاطر الإقليمية المستجدة، بالدولة العبرية (مقابل قوى درزية قوية كانت، قبل المقتلة الأخيرة، تطمح للالتحاق بالسلطة السورية).
يمكن ربط توجّه أقلية درزية (تحوّلت، على ما يظهر، بعد المقتلة الأخيرة إلى أغلبية) نحو إسرائيل، بالمخاوف التي تولّدت مما حلّ بالعلويين، كما بتشدّد النظام واحتكاره للسياسة، ورفضه لمطالب فئات عديدة وليس الدروز وحدهم. تضاف إلى ذلك قضية مهمة جدا، كان الكاتب اللبناني وسام سعادة أحد القلائل الذين انتبهوا إليها في زحام التحليلات السياسية، وسمّاها «المسألة الثقافية الدرزية»، وهي مسالة لم تستطع الدول العربية ـ الإسلامية تلبيتها (كما فعلت إسرائيل)، ومثاله الأبرز على ذلك أنه لا عيد للدروز في تلك الدول يختلف عن أعياد المسلمين، في الوقت الذي كرست فيه إسرائيل عيد زيارة النبي شعيب، وقامت بتوظيف خصوصية إثنو ـ دينية بتقديم عرض يعزز حضورها الرمزي.
يمكن لهذا أن يضيء سياسيا واجتماعيا وثقافيا، على التحدّي الهائل، بالقوة الكامنة وبالفعل، الذي تمثّله إسرائيل على الوعي الوطنيّ الشقي لسكان سوريا، من قبيل افتئاتها على سكان القنيطرة ودرعا، مقابل إعلانها «حماية الدروز»، ومثل كسرها لسيادة الحكومة الجديدة بطريقة ستخلّف جرحا نرجسيا تاريخيا يصعب شفاؤه، وإعطائها للدروز السوريين أملا، ولو كاذبا، يشفيهم من جروح تاريخية أخرى، من قبيل أن فئة أخرى من الدروز قامت بتهجيرهم إثر معركة عين دارا عام 1711.
يحضر هذا الوعي الشقي في تمثّلات الطرفين المتحاربين، وجمهورهما، للإبادة والتطهير العرقي الجاريين في قطاع غزة، فيلجؤون، حين تضعهم الظروف، على تمثّل فلسطينيي غزة المحاصرين، واستخدام تكتيك «اعتقال رهائن»، والتحالف مع قوة خارجية (إيران في حالة «حماس»)، ويلجؤون، حين تضعهم الظروف المعاكسة، إلى تمثّل حصانة إسرائيل من العقاب على جرائم القتل الجماعي، وقيامها بالتطهير العرقيّ (الذي نال مرة الدروز ومرة أفراد العشائر)، وهنا، ويا لها من سخرية سوداء، يتشابه «الإرهابيون»، حسب السردية الدرزية، مع «الخونة»، حسب السردية السنية، وتتكسر المرايا المحدّبة على رؤوس الجميع!

 كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب