في معرضها «اللامعاش»: عزة أبو ربعية ترسم الجمال في زمن الرصاص

في معرضها «اللامعاش»: عزة أبو ربعية ترسم الجمال في زمن الرصاص
نسرين الزهر
من شدة رقته يكاد ينقطع ذلك الخيط الذي توقع به عزة أبو ربعية لوحاتها في معرضها الأخير «اللامعاش»، الذي افتتح يوم 16 يوليو/تموز الجاري في صالة صالح بركات في بيروت. هو متين ورقيق في آن، على صورة الفنانة التي تمده على لوحاتها.
العالم الذي تنقلنا إليه الفنانة هو «عالم رغبنا فيه شفافاً، عالم نعيشه فقط في دواخلنا، ويستحيل أن نعيشه في الواقع». هو عالم كل اللوحات، وإنْ اخترنا واحدة لتمثلها سنحتار، فلا تكرار في لوحات المعرض، غير المعنونة في معظمها، كل واحدة معرض، ولكن فلنختر لوحة الدراجة الهوائية، التي هيكلها العجلتان الخيطيتان، لا يربط بينهما أيّ شي، والجسد الأنثوي الذي يعتليها فاتح وشفاف كالماء، وحدوده هي حدود الحلم نفسه، لا كثافة في أي عنصر من عناصر اللوحة، إلا الورود الحمراء التي تخطّ طريق الدراجة، شيء يشبه أحلامنا حين نتخفّف من أوزاننا، ونركض، أو نسبح، أو نركب دراجة هوائية تطير دون جاذبية تشدنا إلى الأسفل.
هذا ما تفيض به الفنانة بكرم شعري سخي، تقترح عالماً مشتهى تودّ، ونودّ كلنا، نحن المتلقين، أن نعيشه. عالم ورود ورمان وباذنجان وأزهار وأجساد تستمتع بأجساد وبألوان وبأثداء وبفساتين حمراء. عالم شفاف فيه قميص أصفر محمول على علاقة ثياب، هي الأخرى خيطية، وبخيالات مؤنسة، رغم غرابتها، مثل تلك السمكة ذات الضفيرة التي تخيلت الفنانة أنها أدخلت فيها مسباراً ليصبح لها مهبل، وتنطلق جديلتها من ورائها بفعل المسبار نفسه: «أنا لا أرسم أحلامي، بل هي تأخذني إلى عالم آخر».
حياة بكاملها
من اللوحات القليلة جداً التي تحمل عنواناً، لوحة إم كا 30، اسم الدرون الحربي الذي كان يحوم في سماء بيروت خلال الشهور الماضية، إلا أن اللوحة الخضراء، بكل تمايزات الأخضر اللانهائية، لا تضم أيّ درون، هي أوراق شجر كانت الفنانة لا ترى غيرها حين تنظر إلى السماء في محاولة لرؤية الدرون.
جلّ اللوحات الأخرى غير معنونة، فكيف يمكننا عنونة ما نشتهي، ويمر كطيف في مخيلتنا؟ طيف فيه ضوء كثير، وفيه الألوان، شخوص ذات كيان وحضور، كما تقول الفنانة في النص المرافق لمعرضها: «اللون يصبح شخصاً حاضراً لا يحدد بشكل». بُعَيد سقوط النظام، انبجست الألوان، وتدفقت مخيلة الفنانة عن لا معاش قد يصبح معاشاً، فتسقط شخوص رمادية مهلهلة بلا ملامح متهاوية في جانب من اللوحة، وتبرعم في الجانب الآخر للوحة وردة مشمشية قوية، أحمر الرمانة يرمي بكل ثقل حضوره على حواسنا، وزهرة الباذنجان النهدية لا يمكن أن نمر أمام لونها دون عويل داخلي صامت على ما لم نعشه، وكان يمكن أن يُعاش، تأتي الفنانة لتستعيد ما أفل، أو ما خسرناه معيشاً، فنبكي، ونحتار لم بكينا؟ تأثراً بهذا السخاء، أم من إدراكنا أفول الممكنات الماضية، أم الفرح بمُمكنات آتية؟
أن نركب تلك الدراجة، ونطير في الحلم، وأن نلبس تلك الفساتين والتنانير الحمراء والبرتقالية، ونستغرق استمتاعاً دون منتهى بتلك الأجساد المرسومة دون حدود في خطوط متداخلة، وكأن الفنانة لا تريد تخوماً للأجساد المتلاحمة، ولا تريد تخوماً للحب. الحب يسيل ليعبئ اللوحة، واللوحة حياة بكاملها.
ترياق ضد الموت
افتتح المعرض يوم بداية مجازر السويداء، مصادفة الأقدار تضفي بعداً آخر على هذا المعرض، وكأنه ترياق ضد الموت والبشاعة، إكسير حضرته الفنانة بقماش التول والخيوط وورق الواشي الياباني والألوان الزيتية. أصبح لعزة أبو ربعية خلال مسيرتها الفنية، خلال العقد الماضي، هوية واضحة ومتفردة، رغم تعدد تقنياتها وثيماتها، وعدم تكرارها، وكذلك القدرة على تبيّن خطٍ ناظم للوحات في تقنية تكاد تكون شعرية، تعبّر عنها الفنانة دائماً في النصوص المرافقة لمعارضها، نرغب بأن نعلن بأن هذا الفن كونيّ وإنساني قبل كل شيء، ولكننا لا نقاوم غواية أن نقول إن جيل عزة أبو ربعية من الفنانين التشكيليين السوريين هو واحة جمالية يعّول عليه في سوريا التي نريد.
* كاتبة سورية