قصة قصيرة بعنوان وفاء

قصة قصيرة بعنوان وفاء
لم بشرى الكاضي
كل” شيء ابتدأ… من حفّاضة. كانت أمي تغيّر لها كعادتها، حين لمحت بيدها انتفاخًا غريبًا عند جهة الطحال. تسمّرت في مكانها يداها ترتجفان، وعيناها تحدّق بصمت، ….
كان والدي قد أعدّ كلّ شيء لرحلتنا الصّيفية وينتظر خروجنا لننطلق في السيارة، أزعجه تأخرنا، فدخل… يتفقّدنا ليجدها منهارة على الأرض، كالمغشي عليها من هول ما اكتشفت، لم تكن تجربتها الأولى فقد فقدت ثلاثة من أطفالها من قبل بسبب نفس الانتفاخ الذي رأته…
تماسكت، عندما رأتنا نستعجل الذّهاب وكتمت الأمر. لم تخبر والدي. ولم تخبر أحدًا. كأنّها أشفقت عليه ولم ترغب أن تفسد عليه عطلته…
سافرنا، وقضينا شهرًا كاملًا في المصيف، نلهو، ونستمتع بأجواء البحر. وأمّي هناك، تحمل داخلها سرًّا تخرّ له الجبال…
عدنا وعاد والديّ لرحلة العذاب مع العلاج…
وفاء هي قطعة من الضّوء في بيتنا، جميلة، شقراء، لا أذكر لون عينيها، لكنّي أذكر اتساعهما. مرحة مليئة بالدّعابة والفرح … ثم فجأة بدأت بطنها تنتفخ … لم تكن تؤلمها ولكن كانت تعيق سرعة حركتها…. كانت تصغرني بثلاث سنوات لم أكن كبيرة حينها ولكنّ وضعها جعلني أكبر وجعلني أفهم معنى الألم ومعنى الخوف من الفقد ثم الفقد …
لم تكن تلك اللّيلة كباقي اللّيالي… أدركتْ والدتي قرب النّهاية…. فقد كان لها باع طويل مع هذا المرض…..
سادت في الهواء ملامح الوداع، وفي نظرات والديّ ارتجافة لا تخطئها عين.
في تلك اللّيلة، لم أكن أسمع سوى صوت أنفاسها، تتردّد ثقيلة، متقطّعة، كان صدرها الصّغير يصارع عبء الرّحيل
أشفق جدّي عليها فاحتضنها، أرخت رأسها لحظة على كتفيه، وظلّت هادئة… هدوء مؤلما….يصارع جسدها الصّغير سكرات الموت .فتحت عينيها بتعبٍ عميق، ثم نظرت نحو والدي بعينين غارقتين في الرّجاء، مدّت يديها نحوه تريد حضنه، ظننتُ لسذاجتي أنّها تريد الاحتماء به، وأنّها تبحث عن الأمان بين ذراعيه، لكنّها، وهي الصّغيرة، كانت تدرك أنْ لا منجى من الله إلا إليه. أرادت أن تُسْلِم روحها بين يديه
وحينما استقرّت في حضنه، مدّت يدها نحوي، أمسكتُ بها، ببطء،
كانت باردة، كقطعة ثلج ، تفوح منها رائحة الموت، أمسكت أصابعها بيدي، أخذتْ نفَسا كان عميقا وكان شهيقا وكان آخر عهدها بالحياة!!!!
ظلّت تلك اللّحظة، التي جمعت بين برودة الغياب وحرارة الوداع، حيّةً في ذاكرتي، تتجدّد عند كل فقدٍ ، عند كلّ رحيل دون عودة، وبكل نَفَسٍ احتوى الألم والحنين معًا. كانت ظلّي الذي لا يفارقني، يصاحب خطواتي في دروب الحياة، يهمس لي بأسماء غابت وجوهها، وينثر بين أيامي رائحة الذكريات التي لا تنطفئ.
في كلّ مرّة يعانقني فيها صمت اللّيل، تعود تلك اللّحظة لتُشعل في داخلي نارًا هادئة، تحرق أطياف الماضي، وتخبرني بأنّ الوداع ليس كلمة، إنّه قصّة تُروى بلا حرف، ولوعة تُعاش بلا انتهاء.
لم تصرخ، لم تبكِ… فقط سكنت، ورحلت….
لكن أثر يدها ظلّ في يدي، يلازمني كظلٍّ لا يفارقني، يمحو الكلمات من دفاتري، وأصبحت الحروف تتراقص وتتلاشى تحت ناظري،
لم تعد الكلمات تصطفّ كما كانت في ذاكرتي، أصبحتُ أواجه فراغًا في داخلي يتسلّل مع كل حرف وأبجديّة، تحوّلت الكلمات إلى معارك لا قبل لي بها، وأنشأت صفحات دفاتري متاهات أكابر النَّفْس في حلّها لكنّها تتوارى، وتتلاشى، وتتزاحم في رأسِي….
كان كلّ شيء داخلي يتآكل بصمت. واصلت معاناتي، أحمل عبء عسر القراءة وحدي …. ولم يرَ أحد الحروف وهي تتساقط من عينيّ كأوراق الخريف….
ثم فجأة زارتني في حلمي. لم يكن حلما واضح الملامح، ولم تكن هناك تفاصيل محدّدة أو مشاهد مكتملة، لكنّه كان دافئًا، ساكنًا، خاليًا من الألم. سكن الليل ليمنحني لحظة لقاء لا تخضع لقوانين الحياة.
استيقظت وفي قلبي خفّة ورشاقة، كأن شيئًا قد انزاح عن صدري. نظرت إلى كتاب كان ملقى بجانبي، فتوقفت الحروف عن التّراقص، واستقرّت الكلمات في مكانها.
في تلك اللّحظة، استعدت عافيتي. وبدأت أقرأ من جديد، وأعيد اكتشاف العالم بحروف جديدة. لم تعد الكلمات مجرّد رموز، بل صارت نبضًا حيًّا، تحمل صدى صوتها، دفء يدها، وجمال تلك النّظرة التي زارتني في الحلم.
كل جملة أقرؤها كانت عودة لروحي التي سحبتها في رحيلها، وأضحت القراءة خيطًا يربطني بروحها التي ظلّت في أرجاء غرفتنا، يرمّم ما تصدّع في أعماقي، ويعيد لي ملامحي التي فقدتها في غيابها.
كانت الكلمات تُنقذني على مهل، وتحملني من صمتٍ إلى نَفَسٍ يشبه الحياة.
وكلّ صفحة أقلبها كانت شفاء.
لم يعد الفقد سدًّا في وجهي، فزيارتها حاكت بريق نورٍ نسج لي جسرًا عبرتُ عليه نحو عالمٍ علّمني كيف أحتضن الغياب دون انهيار. . .
منذ تلك اللّيلة، أصبحت القراءة طقسًا من طقوس الوصل، وصوتها المختبئ في داخلي يهمس لي عند كل فاصلة: “أنا هنا… فيك.”
Bouchra Gadhi <[email protected]>