
نكروما وعبد الناصر: ألوان افريقيا وهوياتها

صبحي حديدي
زيارة أولى إلى غانا، في مهمة بحثية وأكاديمية، مطلع تسعينيات القرن المنصرم، خلّفت لدى هذه السطور ما يقترب من الولع الغانيّ، إذا جاز التعبير؛ ليس فقط بصدد شؤون ثقافية وسياسية واجتماعية، الكثير منها أفرو ـ أنثروبولوجية ينفرد بها البلد. وإنما أيضاً في جانب خاصّ، واحد على الأقلّ، هو شخصية الزعيم الغانيّ كوامي نكروما (1909ـ1972). كانت عبارته الشهيرة التي يندر أن تغيب عن سوق شعبي أو منتدى ثقافي أو تجمّع سياسي أو حرم جامعي، بمثابة التماعة دائمة تردّ الذاكرة إلى شوارع أكرا: «يُقال مراراً إنّ أفريقيا فقيرة. يا للكلام الفارغ! أفريقيا ليست فقيرة، بل الأفارقة هم الفقراء»!.
مصدر سعادة خاصة، إذن، كانت قراءة كتاب هوارد فرنش «التحرّر الثاني: نكروما، الجامعة الأفريقية، السواد الكوني في مدّه العالي»؛ الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية ضمن منشورات نورتن في نيويورك، في 512 صفحة؛ لأنه يضيف عناصر جديدة لإشباع ذلك الولع الغانيّ، بادئ ذي بدء، ويتكئ على معطيات شخصية نكروما الغنية المتشعبة التعددية لاستبصار حال السود في أفريقيا عموماً، ثمّ في الولايات المتحدة خصوصاً. ثمة، إلى هذا، بُعد في الكتاب يخصّ العالم العربي، أو الشطر الأفريقي من العالم العربي إجمالاً؛ إذْ يتصل بشخص الزعيم المصري جمال عبد الناصر (1918ـ1970)، وموقعه في قلب السجال حول أفريقيا والهوية الأفريقية.
وفي مناسبات عديدة، خاصة حين يتطرق فرنش إلى خيارات نكروما في العلاقة مع الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي والاتحاد السوفييتي، يحضر عبد الناصر في مقاربته للحلقات الثلاث التي تشكّل شخصية مصر: العالم العربي، والعالم المسلم، والقارّة الأفريقية؛ ولن يتأخر الوقت حتى يضيف إليها حلقة عدم الانحياز، وإنْ بدرجات متفاوتة سياقياً وزمنياً. وكان هذا الإعراب عن الإنتماء إلى أفريقيا نقلة جديدة بعيداً عن قول الخديوي إسماعيل في عام 1870، إنّ «مصر لا تقع في أفريقيا، بل في أوروبا». وليس خافياً أنّ ذلك النقاش أخذ أحياناً منحى متوتراً حين شارك فيه منظّرون أفارقة، أمثال النيجيري أوبافيمي، أولو الذي طوّر نقداً شديداً لمفاهيم عبد الناصر حول الشطر الأفريقي من الهوية المصرية، وكتب يقول: «إنّ الجمهورية العربية المتحدة، المخلوق الأثير عند عبد الناصر، والتي تضع قدماً في أفريقيا وأخرى في الشرق الأوسط الآسيوي، هي النقيض الصريح لفكرة الوحدة الأفريقية».
كذلك شدّد نكروما نفسه على النقطة ذاتها من موقع مختلف، حين قال: «لا يمكن لأية حادثة تاريخية أن تنجح في تحويل بوصة واحدة من تراب أفريقيا إلى امتداد لأية قارة أخرى». وفي كتابه الممتاز «نحو سلام أفريقي»، الذي يبحث آفاق تحالف أفريقي حضاري واستراتيجي على طراز السلام الروماني والسلام البريطاني، ناقش الباحث الكيني المعروف علي مزروعي إشكالات هذا الانتماء، وكيف يبدو عميقاً وملموساً في غرب وجنوب الصحراء الكبرى أكثر منه في شمالها، حيث الميول العربية ترجّح الانتماء إلى آسيا والمشرق العربي والإسلامي.
خلاصات النقاش كانت تنبثق من اعتراف ضمني بأن مصر هي الأقلّ أفريقيةً بين بلدان شمال أفريقيا، لأنها: أولاً تمثّل امتداد الحضارة الفرعونية ذات الأبعاد المشرقية أكثر من الأفريقية، وثانياً كانت رافعة أساسية في انتقال الفتح الإسلامي إلى الشمال الأفريقي بدل التوغّل نحو عمق القارة، وثالثاً لأنها تحمل وراءها تاريخاً طويلاً من الخضوع للتأثير الغربي، وتكاد تأتي بعد جنوب أفريقيا في توفّر عناصر الغَربَنة في أوساط نُخَبها على الأقل، ورابعاً أنها كانت تاريخياً منخرطة في مشكلات وسياسات العالم العربي، جزيرة العرب واليمن والشام والمشرق إجمالاً، أكثر بكثير من انخراطها في مشكلات القارّة الأفريقية.
المفارقة (أم لعلها ليست كذلك!) كانت أنّ مصر عبد الناصر تحوّلت إلى أكثر دول شمال أفريقيا دفاعاً عن مفهوم الجامعة الأفريقية Pan-Africanism، ومن هنا جانب البراعة والعمق في تحليل عبد الناصر للمعطيات الجيو ـ سياسية والثقافية والتاريخية لموقع مصر على حدود التقاء آسيا بأفريقيا. وكان الزعيم المصري قد ألزم بلاده بمبدأ «نحن في أفريقيا»، تماماً كما التزم به الزعيم الغانيّ نكروما، رغم ملابسات هذه المقارنة؛ إذْ لم يكن من الممكن لعبد الناصر أن يكون أفريقياً مثل نكروما، رغم وجود الزعيمين في قارّة خضعت للاستعمار على هذا النحو المتشابه أو ذاك، ورغم حسّ التضامن العميق الذي نشأ بينهما كمناضلَيْن من أجل التحرّر.
بذلك، فإنّ عبد الناصر كان أفريقياً بالمعنى الذي كان فيه جواهر لال نهرو آسيوياً، والهوية المصرية قديمة، في حين أنّ الهوية الغانية جديدة وليدة، وعبد الناصر مصري بمعنى تاريخي أعمق بكثير من كون نكروما غانياً؛ الأمر الذي لم يجبّ حقيقة أنّ الأخير أفريقي بمعنى تاريخي، أشدّ عمقاً من انتماء عبد الناصر إلى هوية أفريقية عامة. ومما له دلالة بليغة أنه لا العرب ولا الأفارقة كانوا أوّل من أدرك طبيعة الترابط الجدلي والوثيق بين الشرق الأوسط وأفريقيا، أو بالأحرى بين مصر وعمقَيها المشرقي والأفريقي؛ بل كان المستوطنون البيض في أفريقيا، والقوى الاستعمارية والإمبريالية الأوروبية إجمالاً، هم السبّاقين إلى ذلك الإدراك الحاسم.
وكتاب فرنش نافذة جديدة، فسيحة ورحبة ووضاءة، للإطلال على ذلك التنوّع الفريد، في الألوان والهويات.