ثقافة وفنون

المقال الذي أيقظ الجرح

المقال الذي أيقظ الجرح

إبراهيم عبد المجيد

مصطفى عبيد واحد من أهم القامات الفكرية والأدبية في مصر الآن. أسعد دائما بكتاباته وتجعلني أتحرر من النوستالجيا التي تأتي عند البعض، شوقا إلى زمن كان فيه طه حسين وعباس العقاد وغيرهم، مُعلنا أن في مصر أسماء رائعة كثيرا ما ذكرتها لا تقل قيمة عن ماضينا. قرأت لمصطفى عبيد كثيرا من كتاباته مثل، «التطبيع بالبزنس ـ أسرار علاقات رجال الأعمال بإسرائيل» و»سبع خواجات- سيرة رواد الصناعة في مصر» و»إبنا محيي الدين ـ سيرة ومسيرة عائلة من مصر» و»ضد التاريخ»، فضلا عن روايات مثل» ليل المحروسة» و» جاسوس في الكعبة»، وآخرها « ابنة الديكتاتور»، ودواوين شعرية، فهو مفكر وفنان شامل يذكرك برواد النهضة في مصر. كتبت عن بعضها وسعدت بما قرأته ولم أكتب عنه.
جاءت قراءاتي لهذا المقال الذي عنوانه «الكتابة على لوح ثلج» صدفة على صفحته في فيسبوك، وهو مقال منشور في جريدة «الوفد» التي يعمل فيها، في الرابع من هذا الشهر أغسطس/آب. يتساءل مصطفى عبيد كيف يبدو ما نكتبه كأنه على أرض من الثلج، لا يأتي برد فعل يتقدم بالبلاد والناس. أو بإيجاز:
«تكتبون ولا حال يتبدل. تكتبون ولا يرتدع الظلم، أو تتلاشى غابات القبح. وتتواصل الحروب، وتقسو القلوب، ويطول الغفو. في بلاد خاصمت الكتابة، وهجرت القراءة، ونست حق الكلمة وحريتها وشرفها. يكتب مَن اعتاد الكتابة كأنه لا يكتب. لا تهتز أزهار الشرفات، ولا تبتسم وجوه العصافير، ولا يتبدد الخوف، ولا تتوقف المعاناة. تصدر الصحف والمجلات، تولد الكتب، ويحتضن الفضاء الأوسع مدونات بلا حساب، تصل إلى كل إنسان، شاء من شاء وحجب مَن حجب. ورغم ذلك لا أثر لكلمة ولا نجاح لفكرة ولا تغيير يُمكن أن يوصف بإصلاح نتاج رأي حر». لكنه ينهي المقال متفائلا بأن لا شيء يضيع، فقد غابت كتابات عبد الرحمن الجبرتي، الذي كان يكتب وهو يعلم يقينا أن ما يكتبه لن يصل أحدا، فقد كتب وهو شيخ، كتابه الفذ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، الذي حاكم فيه الظلم والفساد وفضحه وقاومه.

ولأنه كان مستقلا عن محمد علي حاكم البلاد، رافضا جوره، أبى التحول لبوق له، لذا ظل ما يكتبه حبيس داره طوال حياته، التي انتهت سنة 1825، لكن مشيئة الله أبت أا لا تبقى كلماته محجوبة أبد الدهر، فبعد خمسة وخمسين عاما من وفاته وتحديدا في 1880 تم نشر كتابه ليتلقفه الناس، ويُترجم وينقل إلى لغات العالم، كمنظار نزيه لأحوال البشر في زمن الوالي الأشهر. «ربما تكون الكتابة غير مُجدية في الزمن الآني حيث تململ الناس، وسلّموا. لكن قد يأتي أحد ما بعد قرن من الزمن أو أكثر ليكتشف فكرة، أو رأيا جديرا بالاهتمام فيما كتب أصدقاؤنا الكتبة». أعرف أنا إنه في التاريخ اختفت كتابات لبعض الكتاب حتى رحلوا عن الحياة، فعادت إلى حضور متسع، مثل فرانز كافكا، الذي أوصى صديقه ماكس برود أن يبيد كل كتاباته التي لم ينشرها، وكانت الأكثر، بعد أن عاش لا يحظى ما نشره، وكان قليلا، بالاهتمام، لكن ماكس برود خالف الوصية، ونشر ما لم يُنشر وتغيرت الدنيا. أعرف أيضا أن بعض الكتّاب انتحروا في مواجهة هذا الإهمال لهم. إهمال لم تتحمله أرواحهم المتمردة، رغم ذلك كله فالمقال أيقظ في روحي هذا السؤال الضائع، إلى متى تكون الكتابات مصيرها هذه الأرض من الثلج؟ لم يشغلني ما سيحدث بعد موت الكاتب فالمُضار قد رحل، ولن يعرف بما جرى مع أعماله من احتفاء، ورغم أن أعمالي تحظي بقبول كبير لبعضها، أو متوسط لغيرها أو حتى إهمال، فقد وصلت إلى المعنى المريح، وهو أن المتعة التي أحظى بها في الكتابة تكفيني وحدها، وكثيرا ما أقول ذلك نصيحة لمن يمكن أن يناله الإحباط. ما سيحدث بعد موت الكاتب هو أمر لا يعنيني فلن أسمعه أو أراه، بسبب هذه القناعة بمتعة الكتابة استمر، وأحمد الله إنه يعطيني القدرة على ذلك، لكن أثار مقال مصطفى عبيد، السؤال ووضعني وسط ما حولي بقوة. الإجابة الغائبة هي موقف النظام الحاكم من الثقافة والمثقفين. هناك انشطة ثقافية كبيرة تقوم بها الوزارة مهما اختلفنا معها، وتقوم بها مؤسسات ثقافية أهلية ودور نشر وغيرها، لكن الغياب قائم لسبب لا يزال موجودا منذ أكثر من نصف قرن، وهو غياب كتاباتنا عن مناهج التعليم في المدارس، خاصة التعليم قبل الجامعي. لا توجد قصة قصيرة واحدة لأحد منا في المناهج الدراسية بعد يوسف إدريس، ولا رواية مقررة على الطلاب للدراسة بعد «الأيام» لطه حسين. لا توجد قصيدة لشاعر بعد فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة، بل لا يوجد درس واحد في مادة تعليمية مثل القراءة، أو غيرها عن الأجيال الجديدة من الكتاب. لا يوجد درس عن تاريخ السينما، ولا صور لنجومها تزين الكتب الدراسية.

ابتعدت السينما عن الأعمال الروائية وأصابها الاحتكار في الإنتاج الذي لا يتجاوز خمسة عشر أو عشرين فيلما في العام، بينها قد تجد فيلما واحدا عن رواية وكذلك المسلسلات التلفزيونية. تتذكر زمنا ليس ببعيد أيام الخمسينيات والستينيات، كيف كانت أكثر الأفلام عن روايات لأسماء مثل إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ثم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وفتحي غانم ومحمد عبد الحليم عبد الله، ومن تشاء. كانت الرواية بيت السينما المتألق على مدار ذلك الزمن، والسينما تبعث على قراءتها. كل هذا كتبنا فيه ولم يأتِ بنتيجة، كأننا نخاطب أرضا من الثلج. اتاحت السوشيال ميديا للكثيرين الظهور فيما عرفناه بـ»تيك توك» وصارت عامل جذب للملايين من المشاهدين بعيدا عن الكتب، ولم أكن ضدها ولن أكون، فالشعب ليس منقسما بين كتاب وقراء، فهناك متعة في المشاهدة، ومتعة لدى الكثيرين في تمضية الوقت، فيما لا يثير الفكر العميق، بل ربما بحثا عن الضحك أو الغرائب، وإن كان بينها ما هو مهم مثل ما يفعله «الدحيح»، أو أحمد الغندور في قناته المعنية بالفكر والفلسفة،ٍ فوراءها معدون رائعون. لكن حتى أصحاب هذا المنحى لم يسلموا من الخطر، وأخيرا تم القبض على كثيرين منهم، فعلى الأرض لا يزالون موجودين بقوة من يمتلكون الحقيقة وحدهم، يقررون ما يتسق في رأيهم مع قيم الأسرة المصرية! ولا أحد يفكر أن القيم لا تأتي من القهر، لكن تأتي بالتطور الطبيعي للمجتمعات. وأنه حتى الأديان صار هناك اختلاف في تفسيرها، فظهرت مذاهب متعددة في الديانة الواحدة، صارت المسيحية بين أرثوذوكس وكاثوليك وبروتستانت، وصار الإسلام بين الحنفية، نسبة إلى الإمام أبي حنيفة النعمان، والمالكية نسبة إلى الأمام مالك بن أنس، والحنبلية نسبة إلى الإمام أبو عبد الله بن حنبل، والشافعية نسبة إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي، بل وبشكل أوسع بين السنة والشيعة، ولا يعبر الزمن إلا العبادة وطقوسها من صوم وصلاة وحج وزكاة وشهادة ألا إله الا الله، وحتى الملحدين لهم على طول التاريخ وجود ومهما واجهوا من هجوم لا ينقطعون.
أعرف ويعرف كل عاقل أنه منذ أن صارت الثقافة في يد من يحكمون صارت مفاتيحها في يدهم، بل صار فهمها والموقف منها ومن المثقفين في يدهم. ولا نعرف ما يفعل مستشارو الحكام كي يجعلوهم لا يعترفون قط بالخطأ. ويبدو لي الأمر أنهم يستخدمون الجي بي تي شات يسألونه أن يجيبهم ماذا يفعلون، بعد أن يؤكدوا عليه ألا يستعين برأي كاتب أو مثقف حقيقي يتحدث عما حوله. عليه فقط أن يقرأ ما يفكرون ويشعرون به! لذلك لم يكن غريبا بينما أكتب المقال أن تأتيني على فيسبوك صورة بشعة لشركة كبرى، أحاطت تمثال نجيب محفوظ في ميدان سفنكس في القاهرة، بلافتتي إعلان ضخمتين حاصرتاه، كأنما يقولون له اترك مكانك للبيع والشراء، كفاية أدب!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب