
الروائي صُنع الله إبراهيم… شجاعة الرفض وشرف الكلمة

كمال القاضي
ينتمي الكاتب الروائي المصري صُنع الله إبراهيم إلى التيار الفكري اليساري، فهو أحد أعضاء التنظيم الشيوعي (حدتو) وأبرز كُتاب جيله، ولد عام 1937 واشتهر بكتاباته السياسية المُعارضة ضد النظام الناصري، في مرحلة الخمسينيات والستينيات، ومن ثم نال حظه الوفير من السجن والاعتقال في تلك الفترة، التي شهدت موجات عديدة من الغضب على المُثقفين وأصحاب الرأي المُشاكسين، حسب التقارير الأمنية آنذاك.
عمل الكاتب الراحل في بداية حياته في وكالة برلين في ألمانيا الشرقية، من عام 1964 إلى عام 1971 وكان مقرراً أن يستمر في العمل الصحافي لكفاءته المهنية وقدرته على صياغة الخبر الصحافي وتحليله الدقيق، فضلاً عن ارتباطه بالهم العام واعتنائه بالقضايا السياسية، التي أولاها اهتماماً خاصاً وتفرغ لها بشكل كبير، فبرز دورة كمحرر سياسي وصاحب وجهة نظر مُناهضة.
وخلال فترة الشباب والحماس، اتجه صنع الله إبراهيم اتجاهاً آخر، استهدف منه تغيير نشاطه الصحافي، حيث كان شغوفاً بالإبداع الفني، لذا قرر السفر إلى موسكو لدراسة التصوير السينمائي، لكنه عاد إلى مصر في عام 1974 ليتفرغ تماماً للكتابة الأدبية التي وجد فيها ضالته بعد طوافه حول عالم الصحافة والسينما، واكتسابه خبرات عديدة في المجالين المُهمين، من خلال احتكاكه بالكثير من الأنماط الفنية والإبداعية والفكرية، الأمر الذي كون لديه رصيداً من المعرفة في اتجاهات مختلفة، مكنه من الإلمام بالعديد من معطيات الكتابة الروائية، فأصبح جديراً بالدخول في عالم الرواية الثري، العامر بالمواهب والخبرات. لم يُغير صنع الله إبراهيم جلده، ولم يتخل يوماً عن اهتماماته السياسية والفكرية، بل زاد تمسكاً بها على مدار سنوات إبداعه الطويلة، فصار من كُتاب الرواية الاستثنائيين، وانطبعت في أذهان القراء فكرة خاصة عن أدبه وأفكاره وميوله، لاسيما في ظل انتمائه للأفكار اليسارية وتشبثه بثلاثية الحق والعدل والحرية، التي بنى عليها عمارته الروائية والأدبية، وباتت قاعدة أساسية في أغلب أعماله التي برزت منها، روايته الشهيرة «ذات»، التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني ودراما اجتماعية بالغة التأثير، انتقد خلالها عصر الانفتاح الاقتصادي وبداية الاستغلال والانتهازية، وهزيمة القيم والأخلاق، أمام ثقافة الفهلوة وسيادة الفكر المادي وطغيانه. كذلك كتب صنع الله إبراهيم رواية «اللجنة» بصيغتها السياسية الناقدة للظواهر السلبية، وازداد لمعاناً وتوهجاً بعد صدور روايته الأخرى «شرف»، التي احتلت المرتبة الثالثة ضمن أهم مئة رواية عربية، فاعتُبر بمقتضى هذا التفوق واحداً من الروائيين العرب المُهمين، أصحاب المواقف القوية والرافضين لكل أشكال القمع والاستبداد وممارسة القهر على الشعوب المغلوبة على أمرها.
ومن بين رواياته المهمة أيضاً، رواية «الجليد» و»بيروت ـ بيروت» و»العمامة والقبعة» و»وردة» و»برلين 69» و»نجمة أغسطس»، وكلها التزم فيها الكاتب حرفياً بأفكاره الثورية المعارضة، والمضادة للسُلطة القمعية، وأساليب الحكم الديكتاتوري القائم على الفردية المُطلقة والاستبداد بالرأي وتجاهل قوى الشعب، والجماهير التي تُمثل القوة الضاربة في تأثيرها ووجودها القانوني والشرعي.
في عام 2003 كان للروائي صنع الله إبراهيم موقف قوي عبّر من خلاله عن رفضه القاطع للسُلطة الثقافية المناوئة للمُثقفين، والعاملة لحساب النظام الحاكم، فقد رفض استلام الجائزة الممنوحة له من مُلتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، مُدللاً بكل إباء عن عدم قبوله تحويل المُثقف إلى سلعة تُباع وتُشترى، مُكتفياً بالرفض كرسالة موجزة وبليغة مفادها، الاستغناء عن هبة السُلطة التي تقرر دون غيرها لمن تمنح وعمن تمنع العطايا والهدايا بمنطق سليم قوي ينم عن عزة نفس المُبدع وقوة
تأثيره. وبهذا القرار الشجاع الرافض للجائزة، وضع الكاتب الراحل حدوداً فاصلة بين المُبدع كعن
صر فاعل حر، والسُلطة كقوة مُقيدة غرضها الامتلاك والتوظيف وتحديد بوصلة الكاتب في الاتجاه الذي يخدم مصالحها فحسب، دون مراعاة لما يُمكن أن يترتب على انقياد الكُتاب والمُبدعين لغير ضمائرهم واستسلامهم لسلب حريتهم وتعويق مسيرتهم.
وبمقاييس مختلفة ومغايرة، جاء التكريم لصنع الله ليرد له الاعتبار في العام التالي 2004، حيث حصل على جائزة ابن رشد للفكر الحر، فامتن لذلك وقبل الجائزة مُنتشياً بالتقدير والتكريم. وفي عام 2017 تم منحة جائزة كفافيس للأدب، فكانت الفرحة أعم وأشمل، إذ شعر الرجل بالتعويض الملائم الذي يرضيه أدبياً ونفسياً ومعنوياً، وهو القامة والموهبة والمسيرة الحافلة بالكفاح والنجاح، وشارة العناد المُلهمة بغير خضوع أو خنوع أو تزلف.
كاتب مصري