
تاريخ البحر في تونس… قراصنة ولغة يومية عابرة للحدود

محمد تركي الربيعو
في سياق حديثه عن واقع الكتابة السوسيولوجية والتاريخية العربية، لاحظ المفكر العربي الطاهر لبيب، أن الإشكالية تكمن أحياناً في غياب البعد الجمالي عن هذه الكتابة. فالكتابة عن المجتمع العربي تبدو في كثير من الأحيان جافة أو تقليدية، ولا تقدم زوايا، أو قراءات جديدة في مقاربة اليومي أو التاريخي. ويتضح ذلك عند تصفح الإصدارات الجديدة في العالم العربي، حيث تتكرر الموضوعات، ويظل التاريخ السياسي مهيمناً بأدواته ورؤيته على الكتابة التاريخية.
ملاحظة مشابهة عبّر عنها الأنثروبولوجي المغاربي المعروف عبد الله حمودي، الذي أسهم في تعريف القارئ العربي بأسلوب جديد في الكتابة الأنثروبولوجية. فقد رأى أن البحث العلمي في العالم العربي يعاني من تكرار في الموضوعات، وأنه تحول أحياناً إلى مجرد وظيفة، رغم ازدياد أعداد حاملي شهادات الماجستير والدكتوراه. ومع ذلك، تتراجع الأطروحات الجديدة. وأشار حمودي إلى أن التجديد الحقيقي نلمسه أكثر في الأفلام الوثائقية، حيث نجد نصوصاً تتناول زوايا يومية، وتفاصيل دقيقة عن المجتمع العربي، قد يغفل عنها الباحثون الأكاديميون. ويرجع ذلك، في جزء منه، إلى أن بعض كتاب الوثائقيات يأتون من خلفيات غير أكاديمية، ومشارب مختلفة، ما يمنحهم حرية وابتكاراً في الرؤية، رغم أن الإنتاج البصري بدوره لا يخلو من أعمال ضعيفة.
ولعل ما دعانا إلى هذه المقدمة هو، الإشادة بكتاب المؤرخة التونسية الصغيرة بنحميدة «تاريخ البحر في تونس»، الذي تناول ذاكرة البحر، من خلال تتبع تطور سفن الملاحة والقوارب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مقدّماً ـ إن صح التعبير ـ أول قراءة لذاكرة السفن والقوارب في تونس.. ولعل هذه الجمالية الكتابية ليست غريبة على المدرسة التاريخية التونسية، التي تأثرت بمدرسة الحوليات الفرنسية، وأنتجت أعمالاً ثرية تناولت تفاصيل وأنساقاً أنثروبولوجية متعددة. غير أن بنحميدة، بما جمعته من مناهج ومصادر، وبما أضافته من مادة ميدانية، تسلك مساراً جديداً في الكتابة التاريخية التونسية، يوازن بين الصرامة الأكاديمية وثراء التفاصيل اليومية.
عالم البحارة:
تعتقد بنحميدة أن دراسة التاريخ البحري تعني دراسة كل ما له علاقة بالبحر، وإن أهم ما يستدعي الدراسة هو لغة البحّارة، ثم الأسطول، وأخيراً التاريخ والوقائع والحوادث، سواء السلمية أو الحربية.
وكانت القرصنة، أو «الجهاد في البحر» أو «الغزو البحري»، ظرفاً تاريخياً سمح بتطور نسق التحركات البشرية داخل المتوسط. فقد وفر نشاط القرصنة، رغم هامشيته، إطارا للاتصال الحضاري بين ضفتي المتوسط، عبر تلاقي الأشخاص وتجميع البضائع. تطورت القرصنة خلال الربع الأول من القرن السابع عشر حتى بداية القرن الثامن عشر، حيث استُهدفت ما بين 15 و30 سفينة مالطية وإيطالية كبرى، وأُسر نحو ألف شخص بين عامي 1798 و1800. وقد بلغ عدد القراصنة في تونس ما بين عامي 1798 و1816 (192 قرصاناً)، أغلبيتهم من تونس، بنزرت، سوسة، جربة، المنستير ومساكن). ومن المغرب (تطوان، زوارة). وساهم قدوم جنسيات متوسطية وعربية في تنشيط الحياة البحرية في سواحل خليج قابس. وكانت مدينة صفاقس قد استقطبت عددا مهما من هؤلاء خلال القرن التاسع عشر، فبين عامي 1830 و1899، تزايد عدد الإيطاليين من ملاك الأساطيل، ومن العاملين في الصيد وصناعة السفن والتجارة البحرية، خصوصاً من جماعة صقلية وسردينيا، إذ بلغ عددهم 7130 شخصاً في عام 1830، وارتفع إلى 11006 في عام 1881، ووصل عدد الناشطين في المجال البحري إلى 1800 في عام 1887.
كان مشروع الصيد الإيطالي توسعياً، يستهدف المتوسط ككل، وكانت تونس إحدى محطاته. ولهذا، لا نجد اليوم أثراً يُذكر للتجربة التونسية في صيد التونة، بل نلاحظ إرثاً إيطالياً في نوع المركب ـ فلوكت شنشون، والشبك الشنشون، وحتى الطرائق الحديثة المستعملة اليوم في حوض المنستير والوطن القبلي مثل «الطنارة» و»المضربة» كلها مستمدة من التجربة الإيطالية.
تتوقّف المؤلفة عند تطوّر أساليب الصيد، وتتبع بدقة مراحل تطور القوارب والسفن الصغيرة، التي كانت تُصنَع داخل الورش (المناشر)، وتُرمم بأدوات نجارة من البيئة المحلية. يُصطلح على ورش البناء البحري بـ»المنشر»، وعلى أصحابها بـ»المناشرية»، وتُعرف بعض أركان الميناء باسم «الشانطي». ومن أشهر القوارب مركب «اللود»، أو «السفينة القرقنية»، وهو محفوظ في ذاكرة الصيادين بقرقنة وصفاقس، يبلغ طوله بين 8 و10 أمتار، عرضه بين متر ومترين، وهو مدبب من الأمام والخلف، وقاعه مسطح، ويُصنع من خشب الزيتون والسويد المستورد من أوروبا.
الحياة اليومية للبحّارة
تختلف مهنة البحّار عن غيرها من المهن، إذ تتسم بتركيبة مزدوجة بين الضوابط والإخلالات، تتجلى في القيم والمبادئ أثناء العمل، إضافة إلى مشاركة المرأة.
للصيد طقوس تبدأ بارتداء الحلاس ـ لباس البحار ـ وتُسمى عملية ارتدائه بـ»التحليس»، وكان سابقا مصنوعا من الصوف، ثم صار من البلاستيك _انجيراطا، الذي جلبته شركات أوروبية. يُطلق على فترة البقاء في البحر «سرحة»، أي رحلة الرزق، وقبل الخروج يتحقق البحّار من حالة الطقس، لكنه لا يثق بالأجهزة الحديثة، بل بخبرته، مستدلاً بالشمس، والضباب، وصوت غليان البحر، وحركة الطيور. تنعكس علاقة البحّار بالبحر في لغته اليومية، فالمركب يُؤنث إن كان شراعياً (فلوكا)، ويُذكر إن كان بمحرك (بابور). ويحمل البحّار ثقافة متوسطية غنية بتأثيرات حضارية، تشهدها السواحل والموانئ المتشابهة في قوانينها، وصيدها، ولغتها، رغم اختلاف اللهجات.
إجمالًا، تُجسِّد حياة البحّار وكلامه اليومي تجليات من الأشكال والتعابير الثقافية التي تُنسب إلى الفضاء المتوسطي. فثقافة البحر الأبيض المتوسط تتسم بالتعدد، نتيجة تفاعلات تاريخية وحضارية كبرى، كان لتداخل اللغات دور جوهري فيها. وقد شكّلت الموانئ والسواحل البحرية منطلق هذه الثقافة، إذ تكاد موانئ المتوسط تتشابه في سماتها، وتشترك في قوانين الملاحة، وطرائق الصيد والتجارة، وتُعبّر عن ذلك بلغة واحدة تقريباً، رغم ما قد يطرأ عليها من اختلافات محلية.
كاتب سوري