«دهب غالي» ينمّط الفقر ويمجّد البرجوازية!

«دهب غالي» ينمّط الفقر ويمجّد البرجوازية!
منذ لحظة ولادته، يجد الإنسان نفسه في شبكة معقدة من العلاقات التي يفرضها المجتمع والبيئة المحيطة به. تتداخل عوامل التربية والثقافة والظروف الاقتصادية لتشكّل ملامح شخصيته وتوجّه خياراته، بل حتى تحدد ملامح مصيره.

منذ لحظة ولادته، يجد الإنسان نفسه في شبكة معقدة من العلاقات التي يفرضها المجتمع والبيئة المحيطة به. تتداخل عوامل التربية والثقافة والظروف الاقتصادية لتشكّل ملامح شخصيته وتوجّه خياراته، بل حتى تحدد ملامح مصيره.
ما هي حقيقة الإنسان في جوهره؟
غير أن السؤال الجوهري يبقى: ما هي حقيقة الإنسان في جوهره؟ هل هو كائن يسعى بالفطرة إلى الخير، أم أن نوازع الشر كامنة فيه، وتستيقظ حين تمنحها البيئة الظروف المناسبة؟
كثيراً ما تُقاس هذه القيم بمعايير مجتمعية نسبية، تتغير من زمن إلى آخر ومن مكان إلى آخر. وفي قلب هذا الصراع، يطلّ سؤال الفقر، بوصفه أحد أكثر الظروف قسوةً وتأثيراً: هل يمكن للفقر أن يبرر الجريمة؟ وما هي أشكال الفقر ومجالاته، ومن هم ضحاياه الحقيقيون؟ وبين إكراهات الواقع وإمكانات الإرادة، يظل السؤال الأخير حاضراً: هل توجد مساحة للتغيير، وما مدى قدرة الإنسان على كسر القيود التي تفرضها عليه بيئته ومجتمعه؟
بين قيود البيئة وحلم التغيير
يناقش مسلسل «دهب غالي» (تأليف محمد سليمان عبد الملك ـــ إخراج محمود عبد التواب ــ «شاهد») هذه الأسئلة جوهرية حول مصير الإنسان وعلاقته بمجتمعه، وصراعه من أجل التغيير، سواء على المستوى الشخصي أو ضمن البيئة المحيطة به.
وتأتي هذه الإشكالات من خلال حكاية الشاب غالي (إيهاب شعبان)، الذي يجد نفسه في تجربة إعادة تأهيل غير تقليدية صمّمتها دهب (فايا يونان)، الشابة العائدة من أوروبا بأحلام مثالية حول إمكانية تغيير الإنسان.
بعد عودتها إلى لبنان، تقرّر دهب إطلاق برنامج لإعادة تأهيل كبار السن بهدف حمايتهم من الانخراط في الجريمة، إيماناً منها بأن الظروف القاسية هي التي تدفع الإنسان نحو السلوك الإجرامي، وأنّ تحسين تلك الظروف كفيل بتغيير سلوكه وأهدافه.
وفي إطار بحثها عن نموذج تطبّق عليه مشروعها، تلتقي غالي، الشاب الميكانيكي المنتمي إلى حي فقير حيث السرقة وأعمال العصابات أمر معتاد. يتورط غالي مع عصابة لإنقاذ أخيه، فتراه دهب الشخص المناسب لاختبار فكرتها.
يوافق غالي على الانضمام للمشروع، مدفوعاً بالحافز المالي الذي قد ينقذ أخاه، وبحس داخلي ناقم على واقعه في الحارة. تبدأ رحلته مع دروس الإتيكيت واللغة والفلسفة والميكانيك.
تقرّر دهب تقديمه للمجتمع على أنّه «الدكتور فيصل»، أستاذ جامعي عائد من كندا. غير أن اندماجه في المجتمع الأرستقراطي يولّد صدامات بين عالمه الأصلي والعالم الجديد، ما يفتح أمامه صراعاً داخلياً حاداً، خصوصاً بعد أن تكشف دهب هويته الحقيقية أمام الطبقة المخملية، في محاولة لإثبات نجاح مشروعها والحصول على التمويل.
يتحول الغضب داخل غالي إلى رغبة في الانتقام، خصوصاً بعد اكتشاف مرض والدته الخطير، فينجرّ إلى خطة شقيقه وأبناء حارته لسرقة دهب.
بين الخير والشرّ
بالرغم من أن المسلسل يطرح سؤالاً أخلاقياً حول معايير الخير والشر، وأثر الفقر والظروف القاسية في صناعة الجريمة، وينتصر في نهايته لفكرة أن الإنسان يمتلك رغبة حقيقية في التغلب على السلوكيات السيئة، إلا أن المعالجة عبر عوالم دهب وغالي جاءت مبسطة وتنميطية. فقد ربطت الحكاية الشر بالفقر بشكل مباشر، بينما قُدِّم المجتمع الغني بصورة مثالية شبه خالية من الأشرار، وهو طرح أقرب إلى الرؤية البرجوازية تجاه المجتمعات الفقيرة باعتبارها بؤراً للمشكلات الأخلاقية.
كان التباين بين العوالم واضحاً ومباشراً، عبر رسم الشخصيات التي بدت في معظمها أحادية البعد، منمطة في أهدافها أو في «كاركتير » محدد.
حاول السيناريو كسر هذا التنميط في نهاياته من خلال تحولات درامية لشخصيات مثل عم غالي، وأخيه، وصباح ابنة عمه، بقراراتهم بالتوبة، إضافة إلى ملامح التغيير في شخصية غالي نفسه. لكن منذ البداية، ارتبطت في العمل الهمجية بالفقر والرقي بالغنى، واستُخدم هذا التنميط لتوليد الإضحاك والكوميديا، التي نجحت حيناً وأخفقت أحياناً.
ورغم محاولة المسلسل كسر هذه الصور النمطية للوصول إلى رسالته الإنسانية، إلا أنّ هذا المسعى أوقعه في طرح سطحي غير مكتمل. فهل المجتمعات الأرستقراطية فعلاً خالية من الجريمة؟ وهل الجريمة حكر على ضحايا الظروف؟ وهل يقتصر تأثير البيئة على السلوكيات والأفعال بدون أن يشكل رؤيتنا للعالم؟
في النهاية، بدا أن المسلسل جمع شخصيات من طبقات مختلفة داخل رؤية واحدة للعالم، بمنظومة أخلاقية تنتمي للطبقة البرجوازية التي تجسدت في شخصية دهب، التي قد تكون صائبة أخلاقياً لكنها تصبح قاصرة حين تتحول إلى المعيار الوحيد الذي ينبغي للجميع الانحياز إليه.