رئيسيالافتتاحيه

تشكيل لجنة صياغة الدستور الفلسطيني بين الإطار القانوني ومتطلبات التوافق الوطني

تشكيل لجنة صياغة الدستور الفلسطيني بين الإطار القانوني ومتطلبات التوافق الوطني

بقلم رئيس التحرير

تشكيل لجنة لصياغة دستور لدولة فلسطين بموجب مرسوم رئاسي يُعد خطوة مهمة في المسار السياسي الفلسطيني، فهي ليست مجرد إجراء قانوني، وإنما فعل سياسي واستراتيجي يفتح الباب أمام إعادة صياغة مشروع الدولة الفلسطينية في أبعاده الوطنية والإقليمية والدولية. فالدستور يمثل في جوهره عقدًا اجتماعيًا جامعًا، ومن خلاله يوجّه الشعب الفلسطيني رسالة للعالم بأنه يمتلك مقومات الدولة ويستحق اعترافًا كاملًا بعضوية الأمم المتحدة. غير أن نجاح هذه الخطوة يظل رهينًا بمدى القدرة على تحويلها إلى عملية تشاركية تُعبّر عن مختلف مكونات الشعب الفلسطيني ولا تقتصر على طرف أو مؤسسة بعينها.

على المستوى الوطني، يمكن أن يشكّل الدستور رافعة للانتقال من مرحلة السلطة المحدودة باتفاقيات أوسلو إلى مرحلة الدولة ذات السيادة الكاملة، وأن يضع إطارًا واضحًا لتنظيم العلاقة بين السلطات بما يعزز الشرعية الوطنية ويكرّس سيادة القانون. لكنه في المقابل قد يتحول إلى مصدر توتر إذا جاء بمعزل عن التوافق الوطني أو في ظل استمرار الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ أن غياب الشراكة السياسية الحقيقية يقلل من فرص أن يحظى الدستور بقبول شعبي جامع.

من الناحية القانونية والدستورية، يثير صدور دستور بمرسوم رئاسي تساؤلات حول مدى تمثيله للإرادة الشعبية، خاصة وأن التجارب المقارنة أظهرت أن الدساتير الناجحة كانت ثمرة عمليات حوار ومشاركة واسعة. ففي جنوب أفريقيا جاء الدستور نتيجة مفاوضات أنهت نظام الفصل العنصري ووفرت أساسًا لبناء الدولة على قاعدة المساواة والعدالة، وفي كوسوفو كان الدستور أداة لإقناع المجتمع الدولي بقدرة الدولة الناشئة على ممارسة الحكم الرشيد، أما في تيمور الشرقية فقد شكل التوازن بين الإرادة الوطنية والاعتبارات الدولية مدخلًا لتعزيز الشرعية في الداخل والخارج. هذه التجارب تؤكد أن أي دستور فلسطيني يحتاج إلى عملية توافقية شاملة كي يتحول إلى وثيقة مؤسسة للدولة بدلًا من أن يُنظر إليه كخطوة أحادية.

إقليميًا ودوليًا، فإن إقرار دستور فلسطيني يتبنى مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان يمكن أن يشكل أداة دبلوماسية قوية لدعم الاعتراف الدولي بفلسطين. غير أن إسرائيل قد ترى في هذه الخطوة تهديدًا لمشروعها السياسي وتسعى إلى عرقلتها، فيما ستختلف مواقف دول الإقليم بين داعم يعتبر الدستور عنصر استقرار، وآخر يخشى أن يُستخدم لتعزيز نفوذ طرف سياسي على حساب الآخرين. أما القوى الكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فستراقب بعناية مدى التزام النص الدستوري بالمعايير الديمقراطية وخطاب حل الدولتين، ما يتطلب من اللجنة الدستورية الفلسطينية دقة ومرونة في الصياغة بما يوازن بين الثوابت الوطنية والاعتبارات الدولية.

إن التحدي الجوهري أمام القيادة الفلسطينية هو أن تتحول عملية صياغة الدستور إلى مسار جامع يكرّس مبدأ الشراكة الوطنية، ويضع أسسًا لنظام سياسي ديمقراطي قادر على استيعاب التعددية الفلسطينية، بحيث يصبح الدستور وثيقة تحرر وطني وأداة لتعزيز الصمود الداخلي والانفتاح على العالم. ومن هنا، فإن أي مرسوم بتشكيل لجنة الدستور ينبغي أن يُستكمل بحوار وطني شامل يضمن المشاركة الواسعة لكل القوى والفعاليات، كي تتحول هذه الخطوة إلى ركيزة لبناء الدولة الفلسطينية وتعزيز حضورها القانوني والسياسي والدبلوماسي على الساحة الدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب