اختلال موازين العدالة الدولية وتداعياتها على مستقبل النظام العالمي

اختلال موازين العدالة الدولية وتداعياتها على مستقبل النظام العالمي
بقلم: رئيس التحرير
يشهد العالم في العقود الأخيرة سلسلة من الأزمات والصراعات التي كشفت هشاشة المنظومة الدولية وعجزها عن تحقيق العدالة وصيانة السلم والأمن الدوليين. فالحروب التي شنتها القوى الكبرى في العراق وأفغانستان تحت ذرائع “مكافحة الإرهاب” أو “نشر الديمقراطية” لم تجلب إلا الدمار والانقسام وتعميق الأزمات الإنسانية، فيما تحولت غزة والضفة الغربية إلى مسرح يومي لانتهاكات ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني دون مساءلة حقيقية أو محاسبة دولية.
ولا يختلف المشهد في سوريا ولبنان واليمن، حيث تتقاطع المصالح الدولية والإقليمية على حساب معاناة الشعوب، ويتجلى غياب الإرادة الدولية لتطبيق القانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة. هذه الحروب لم تكن مجرد نزاعات محلية، بل شكلت أدوات لإعادة رسم خرائط النفوذ وتكريس اختلال موازين القوى بما يخدم مصالح قوى بعينها، بينما يُترك الملايين من المدنيين ضحايا للنزوح والفقر والحرمان.
إن الإشكالية الجوهرية تكمن في الانتقائية التي تمارسها المؤسسات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن، الذي يفترض به أن يكون مرجعاً للعدالة الدولية، لكنه غالباً ما يتحول إلى أداة بيد القوى الكبرى. فالفيتو يُستخدم لحماية حلفاء بعينهم وتبرير حروبهم، بينما تُعطّل العدالة عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعوب الضعيفة أو المطالبة بمحاسبة المعتدين.
هذا الخلل البنيوي في النظام الدولي يُنتج عالماً تسوده شريعة القوة بدلاً من قوة القانون، ويقوض الثقة بمبادئ الأمم المتحدة التي قامت على فكرة المساواة بين الدول وصيانة الكرامة الإنسانية. وفي ظل هذا الواقع، تتعمق حالة الفوضى ويزداد خطر انزلاق النظام العالمي إلى مزيد من الاستقطاب والتصعيد، بما يهدد الاستقرار والسلم الدوليين على المدى الطويل.
إن الحاجة اليوم ليست فقط إلى إصلاح آليات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل إلى إعادة صياغة مفهوم العدالة الدولية بما يضمن المساواة بين الشعوب والدول ويضع حداً لسياسة الكيل بمكيالين. ذلك يتطلب إرادة دولية حقيقية تقوم على الاعتراف بأن الأمن لا يتحقق عبر القوة العسكرية أو التحالفات الضيقة، وإنما من خلال العدالة الشاملة واحترام القانون الدولي.
إن استمرار الصمت الدولي أمام مأساة غزة، وتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، وغض الطرف عن الأزمات الممتدة في سوريا واليمن ولبنان، يشكل اختباراً صارخاً لمصداقية النظام الدولي. وإذا لم يتم التدارك، فإن اختلال موازين العدالة لن يهدد فقط المنطقة العربية، بل سيقود العالم بأسره إلى مستقبل تسوده الفوضى وانعدام الثقة بالمؤسسات الدولية.
وبذلك فإن بناء نظام عالمي أكثر عدلاً وإنصافاً لم يعد ترفاً سياسياً، بل ضرورة استراتيجية لضمان الاستقرار الإقليمي والدولي، وإلا فإن التاريخ سيعيد إنتاج المآسي ذاتها، وربما على نطاق أوسع وأشد تدميراً.