رئيسيالافتتاحيه

قراءة في الاتفاق الفلسطيني والتوازنات الإقليمية المقبلة

قراءة في الاتفاق الفلسطيني والتوازنات الإقليمية المقبلة

بقلم:رئيس التحرير

يشكل الاتفاق الفلسطيني الأخير لتسليم إدارة قطاع غزة إلى “لجنة تكنوقراطية مؤقتة” محطة مهمة في مسار ما بعد الحرب، لكنه لا ينفصل عن معادلة القوة التي تكرّسها إسرائيل بدعم أميركي مباشر. ففي الوقت الذي يسعى فيه الفلسطينيون إلى استعادة الوحدة وبناء إدارة وطنية تحفظ النظام السياسي، تتحرك إسرائيل لإعادة هندسة المشهد بما يضمن بقاء السيطرة الفعلية في يدها، عبر فرض معاييرها على تشكيل القوة الدولية المزمع نشرها في القطاع وتحويلها إلى أداة لضبط الأمن بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.

هذا الاتفاق، رغم رمزيته، يأتي في إطار “تسوية اضطرارية” أكثر من كونه تحولًا سياديًا، في ظل غياب توازن الردع وتعدد الوسطاء وتنامي النفوذ الخارجي في رسم مستقبل غزة السياسي والإداري.

توحيد الموقف الفلسطيني حول لجنة التكنوقراط يعكس محاولة لاحتواء الانقسام وتحييد الخلاف الأيديولوجي بين الفصائل، غير أنّ هشاشة البنية التنظيمية للاتفاق تبقى واضحة في غياب تحديد واضح للصلاحيات بين اللجنة والسلطة الفلسطينية، والطابع المؤقت للّجنة الذي يُبقي الباب مفتوحاً أمام صراعات النفوذ وتأخير بناء مؤسسات حكم مستدامة. كما أن التمويل المشروط بالإشراف الدولي يربط الإعمار بالالتزام السياسي، ما يعيد إنتاج التبعية الاقتصادية ويحد من حرية القرار الفلسطيني.

في المقابل، تكشف المواقف الأميركية والإسرائيلية عن مسعى لإعادة تعريف مفهوم “الحياد الدولي”، فتصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأن “القوة الدولية يجب أن تضم دولًا ترتاح إليها إسرائيل” تمثل انقلاباً على مبدأ الحياد، وتحويلاً لبعثات الأمم المتحدة من أدوات لحماية المدنيين إلى أدوات لضمان الأمن الإسرائيلي.

إخضاع القوة الدولية للمعايير الإسرائيلية يحمل تداعيات خطيرة: سياسياً، سيؤدي إلى تكريس مفهوم “السيادة المُدارة” في غزة؛ أمنيًا، سيحوّل القوة الدولية إلى ذراع رقابية تحد من أي نشاط مقاوم؛ وقانونيًا، يخلق سابقة خطيرة تسمح لقوة احتلال بالتأثير في تشكيل بعثات دولية، ما يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن.

أما الوساطة المصرية، فتأتي ضمن مسعى لتثبيت مكانة القاهرة كوسيط لا يمكن تجاوزه في أي تسوية تخص غزة، بما يعزز دورها الإقليمي ويحافظ على استقرار حدودها الشرقية. لكن هذا الدور يواجه تحديات متشابكة تتعلق بالموازنة بين الشروط الأميركية والإسرائيلية من جهة، والتطلعات الفلسطينية من جهة أخرى، إضافة إلى التنافس الإقليمي حول إعادة الإعمار وتفادي تحوّل غزة إلى عبء أمني واقتصادي على مصر.

في المقابل، تواصل الولايات المتحدة دعمها غير المشروط لإسرائيل، وتربط إعادة الإعمار بعملية سياسية تفرغ السيادة الفلسطينية من مضمونها، ما يجعلها شريكاً في فرض الهيمنة لا وسيطاً نزيهاً. هذا الانحياز الأميركي المتكرر يقوّض الثقة بمؤسسات الأمم المتحدة ويعمّق الفجوة في النظام الدولي، في وقت تتعرض فيه وكالة “الأونروا” لضغوط تهدف لتصفية قضية اللاجئين وضرب أحد أعمدة الشرعية الدولية للقضية الفلسطينية.

الخيارات الفلسطينية تبقى صعبة، إذ إن القبول بالشروط الإسرائيلية يعني الانخراط في معادلة “الإدارة بلا سيادة”، ما يفقد السلطة الفلسطينية مشروعيتها أمام شعبها. لذلك، من الضروري أن يستند الموقف الفلسطيني إلى رؤية وطنية شاملة تقوم على إعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، والتحرك القانوني والدبلوماسي لتثبيت الحقوق السيادية، وبناء تحالفات جديدة توازن النفوذ الأميركي – الإسرائيلي، وتعزيز المقاومة السياسية والاقتصادية بديلاً عن الانقسام الداخلي.

في المحصلة، لا تكمن خطورة المرحلة في من يدير غزة بل في من يمتلك القرار الفلسطيني المستقل. فإما أن يتحول الاتفاق المؤقت إلى مدخل لبناء شراكة وطنية حقيقية تحفظ السيادة وتعيد الاعتبار للمشروع الوطني، أو يبقى مجرد إدارة للأزمة وفق معايير إسرائيلية تكرّس واقع القوة وتعيد إنتاج الاحتلال بأدوات دبلوماسية جديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب