ثقافة وفنون

إلياس خوري وكتابة تاريخ المقموعين

إلياس خوري وكتابة تاريخ المقموعين

حسن بولهويشات

في كتابه «الرواية وتأويل التاريخ» يُميّز فيصل درّاج بين عمل المؤرخ وعمل الروائي؛ فالأول يصوغ التاريخ بناءً على أرشيف سلطوي يتجانس فيه الحاكم والمحكوم، وهو الأرشيف الثابت والموحّد الذي تستمد منه السلطة شرعيتها. بينما يستمد الروائي مادته من الأرشيف الشعبي المتناثر، وهو أرشيف المقموعين المهدّد بالإتلاف والتدمير، وبالتزوير بكلّ الأساليب من طرف المؤرخ والرقيب والبرنامج المدرسي: «وتكتب الرواية تاريخ المقموعين ولا تكتبه: تكتبه وهي تقتفي آثار الأرشيف الشّعبي المتناثر، الذي يبقى متناثراً، ولا تكتبه حين تعطف اختصاص الكتابة على أوجاع المقموعين مستلهمة لغةً من مكتبات سلطوية قديمة»،. وهو التصوّر الذي يحيلنا على باختين الذي يربط نشأة الرواية بالثقافة الشعبية، والطقوس الكرنفالية لدى الشعوب القديمة، مُرجّحا الشعبي الساخر على السلطوي المتحفظ، والمهمل والمتروك على المُهيمن والسائد.
وتزخر مدوّنة الرواية العربية بالنصوص التي حفلت بتاريخ المقموعين متوسّلةً بالأرشيف الشفهي والأخبار والتسجيلات، وبمرويات وسرديات متناثرة، إذ ارتبط الكثير من هذه النصوص بمحطّات تاريخية معينة لدرجةٍ أفرزت معها عدّة تسميات من قبيل: «أدب النكبة»، «أدب النكسة»، «أدب السجون» «أدب الربيع العربي»، وهي كلّها تسميات تُحيل على كتابة الآلام والخسارات، وعلى التيه والشتات والحلم المجهض. وقد تحقّق لدى النقاد والدارسين تراكمٌ نصّي مهم في هذا الباب، خصوصا مع كتابات نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وغسان كنفاني وإلياس خوري وبهاء طاهر.
في هذا الاتجاه دائما، استأثرت القضية الفلسطينية – وما زالت تستأثر- باهتمام السرّاد منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي. وتعتبر التجربة الروائية للكاتب اللبناني إلياس خوري (مواليد 1948) رائدةً في هذا الاتجاه (لاحظوا صدفةَ تزامن تاريخ ميلاده مع تاريخ النكبة)، وهو الذي التحق في سنّ مبكّرة بحركة فتح المقاومة في منظمة التحرير الفلسطينية، وحصَل على الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي. وساهمَ بمقالات في النقاش المرتبط بأوضاع الشرق الأوسط. وهي كلّها محطّات وبيانات جعلته على تماسٍ حقيقي مع ما يجري في فلسطين ولبنان وباقي الدول العربيّة التي تعيش توترا سياسيّا واجتماعيّا، فجاءت نصوصه الروائية مكتظة بأسئلة التاريخ والهوية والهجرة والاغتراب.

أصدر إلياس خوري روايته الأولى «لقاء الدائرة» عام 1975، ثم توالت رواياته في الصدور بشكل منتظم تقريبا. غير أنّ روايته «باب الشمس» التي صدرت عام 1989 قد حقّقت شهرةً واسعة وتُرجمت إلى عدّة لغات بما في ذلك الهندية والتركية والعبريّة والفارسية، وتحوّلت إلى فيلم سينمائي يحمل العنوان نفسه. كما تُصنّف نقديّا من أقوى الروايات التي تؤرخ للنكبة وتميط اللثام عن عودة الفلسطينيين متسللين عبر الحدود، ليموتوا في ظروف مأساوية أو يُطردوا مرّة ثانية في أحسن الأحوال. وتسرد الرواية حكاية المناضل «يونس الأسدي» الذي نجح في التسلل إلى فلسطين والتقى زوجته نهيلة في «مغارة الشمس» فأنجبا الأولاد، في إشارة إلى الصمود الفلسطيني والتشبث بالأرض. وتتقاطع مع حكاية البطل حكايات المُهجّرين وسكّان المخيمات ومصير شخصيات وعوائل يعبق المكان بسيرتهم.
يصحّ مع روايات إلياس خوري الحديث عن ما يسمّى نقديًّا بـ»التجربة الروائية» وذلك لعاملين أساسيين: الأول يرتبط بطريقة الكتابة والقيمة الفنية لهذه النصوص، والثاني يتعلق بالمستوى الثيمي والتقاطعات التي تخلقها هذه النصوص. لنبدأ بالمستوى الفني/التقني، حيث تغدو الرواية عند خوري ملتقىً للأجناس الأدبيّة والفنية وخطابات من حقول معرفية عدّة، إذ يحضر موروث الشّعر العربي والسرد القديم إلى جوار نصوص الحداثة الشعرية وسرديات روائيين معاصرين مثل، غسان كنفاني وإميل حبيبي وغيرهما. ويتجاور النص الديني مع الخطاب الصحافي والتحليل النقدي. وتنفتح يوميات ومذكرات شخصيات أدبيّة وسياسية معاصرة على سِير شخصيات تاريخية عربية. إنّه التداخل الأجناسي الذي وفّر لرواياته التنوع اللغوي من خلال استقدام أساليب وطرائق تعبيرية متنوعة، كَسّرت خطيّة السرد. كما لا يتردّد الكاتب في وضع العامية على لسان الشخصيات كي تفصح عن مواقفها وآرائها بلا وساطات، ولا مجازات حين يستدعي الأمر ذلك. ويعتبر العنصر اللغوي (العامية إلى جانب الفصحى) علامة فارقة في كتابات خوري، سواءً الروائية أو القصصية.

الملاحظ أيضا، أن روايات خوري تتشبث بالكِتابة المخاتلة، التي تُقدّم نفسها بصيّغ شتى. إنّها اللغة المواربة التي تربك القارئ وتنقله من الدلالة المباشرة إلى الدلالة القصديّة وتُعمّق الأسئلة، بل إنّ روايات خوري، دون استثناء، تطرح الأسئلة وتستشرف المستقبل وتنأى بنفسها عن تقديم إجابات جاهزة. إنّه تنويع وحفر عميق في سؤال «لماذا؟» الذي أغلق به غسان كنفاني روايته القصيرة «رجال في الشمس»، وسؤال محمود درويش في قصيدته «لماذا تركت الحصان وحيدا؟»، إنّه سؤال القضية والإدانة. بالإضافة إلى ضمير المتكلم المُخاتل الذي يتنقل بين وضع السارد ووضع الشخصية الرئيسية (البطل). وعلى ذكر الشخصيات، فإنّ روايات خوري تستعير مادتها من حكايات ومرويات الشخوص، لذلك تظهر بعض فصول رواياته أشبه بقصص قصيرة مستقلة (رواية «باب الشمس» على سبيل المثال)، لولا أنها تصبّ في الحكاية التي تنبني عليها الرواية. ومن دون أن نغفل حضور النصوص الموازية من إشارات وتوضيحات وعتبات، كما في روايته «كأنها نائمة»، وهي نصوصٌ تنتسب إلى المخاتلة السردية والتجريب الروائي.
على مستوى الموضوعات، تستهدف روايات إلياس خوري قضايا الإنسان والوطن (أليست هذه هي الحداثة الروائية؟). وتستعيد سِير المقموعين وأصوات من لا صوت لهم، لدرجة تبدو كلّ رواية من رواياته كأنّها عطفٌ على الرواية التي سبقتها أو جزءٌ منها، كما حصَل في ثلاثية «أولاد الغيتو». روايات تنبش في الأرشيف الشعبي الذي تحدّث عنه فيصل درّاج، وتفضح مآسي الحروب وما يترتب عنها من شتاتٍ وانقسام بين الأهالي، أشبه بالذي حَدَث للتوأمين كريم ونسيم في روايته «سينالكول»، التي تروي آلام وكوابيس الحرب الأهليّة اللبنانيّة.
صحيح أن روايات إلياس خوري ترصد المأساة على غرار جلّ روايات النكبة، غير أنها تتجاوز مسألة الرصد إلى التأمل في التاريخ قبل وبعد المأساة، بل تضع الذاكرة في مواجهة التاريخ والرواية الرسمية، وتُناقش الهوية في علاقة بالأرض، والصّمت في علاقة بالخيبة والخذلان، والضحية في علاقة بالجاني. إنها روايات ساخرة وغاضبة من أولها إلى آخرها.
في المجمل، إن الكتابة الروائية عند إلياس خوري (توفي 2024) هي كتابة مركّبة يتداخل فيها الواقعي بالتخييلي عبر التماهي والتقاطع والمفارقة؛ واقع فلسطين ولبنان، وإن كان الواقع الفلسطيني هو المهيمن، فيما يتمظهر التخييل من خلال أنسنة المكان وتحوير الزمن وعناصر أخرى. غير أنّها كتابة لا تُسلِّم نفسها للقارئ بسهولة، بالنظر لما تكتظ بها من تاريخ الملوك والحروب والنظريات النقدية وأسماء الشعراء والفلاسفة ورجال الدين، وملخصات كتب وندوات فكرية. كِتابة توفر للنّاقد عدّة مداخل قرائية، وهي كلّها مداخل تُفضي إلى تاريخ المقموعين.
كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب