ثقافة وفنون

المدينة العربية والأحلام: هوامش أنثروبولوجية

المدينة العربية والأحلام: هوامش أنثروبولوجية

محمد تركي الربيعو

يُعدّ التاريخ الاجتماعي للأحلام مدخلاً مهماً لفهم علاقة الأفراد والمجتمعات بالخيال والواقع، وفي السياق العربي على نحو خاص يكتسب الأمر دلالات إضافية تتصل بالتحولات السياسية والاجتماعية، التي شهدتها البلاد في القرنين الأخيرين. ففي عملها الميداني «الأحلام والجوهر: المشهد المصري في فضاء الخيال»، تشير الباحثة الأنثروبولوجية أميرة ميترماير، إلى أن الفترة التي يعيشها المصريون منذ سنوات لم تكن أوقاتاً حالمة بالمعنى التقليدي، بل بدت محكومة بالكوابيس الجماعية والظروف العصيبة، ما جعل دراسة الأحلام نفسها تبدو وكأنها تجري في زمن غير حالِم، في لحظة تاريخية يتغلب فيها الحس الواقعي والسياسي على الرؤى المتخيلة. ومع ذلك فإن هذا البعد ظل مهمشاً إلى حد بعيد في معظم الدراسات حول الشرق الأوسط.
ففي عمله المهم عن علماء مدينة دمشق، بقي الباحث توماس بيريه يتعامل مع السير الذاتية للعلماء، بوصفها مادة لجمع معلومات عنهم، دون أن ينظر إلى جوانب ورمزيات أخرى في السيرة. ما لفت انتباهنا خلال قراءة سير علماء دين مثل سيرة حسن حبنكة الميداني، هو موضوع مكانة الرؤى والأحلام في هذه السير. فهذه السير لا تخلو من إشارات طويلة حول رؤى وأحلام العلماء، ورؤيتهم لبعض الإشارات التي جعلتهم يقررون الخوض في نقطة ما أو التراجع عنها. واللافت هنا أن هذا البعد الأحلامي لم يقتصر فقط على السير، بل نجده أيضاً في خطبهم ودروسهم الدينية. ما يلفت الاهتمام ليس موضوع الرؤى فحسب، وهو تقليد له جذوره عند المتصوفة والإسلام عموماً، بل لأن موضوع الأحلام يتوافق مع فكرة طرحها الأنثروبولوجي الهندي أرجون أبادوراي، الذي يرى أن بعض المجتمعات تتجه نحو الأحلام والفنون كمحاولة لإعادة تخيل المدينة والدفاع عنها أحيانا. وبالتالي، يمكن النظر حينها إلى أحلام العلماء بوصفها مادة تمكن من فهم رؤية رجال الدين التقليديين للواقع الذي عاشوا فيه، أو كيف فكروا بواقعهم والمدينة وتحولاتها.
وبالعودة لكتاب الباحثة ميترماير، يحاول الكتاب التفكير في معنى الأحلام ودورها في تلك الأوقات غير الحالمة، مبرزا أن التشكيك في قيمة الأحلام لم يؤدِّ إلى اختفائها من المشهد الثقافي أو الديني. فرغم الموقف المتحفظ الذي يتبناه مسؤولو الدولة والمحللون النفسيون، وبعض المفكرين الإصلاحيين المسلمين بدايات القرن العشرين، بقيت الأحلام، سواء كانت ذات طابع ديني أو سياسي أو شخصي، جزءاً لا يتجزأ من المخيلة المصرية. فهي لا تؤدي وظيفة تعويضية أو واهية، وإنما تُدخل الحالمين في شبكات أوسع من الديون والعلاقات والمعاني الرمزية، وتفتح أمامهم آفاقاً أخلاقية تفرض نفسها على الحياة اليومية. وتصبح رؤية الأحلام وسردها وتفسيرها شكلاً مغايراً من أشكال المشاركة الأخلاقية والسياسية، بما يجبر الباحث على إعادة النظر في افتراضاته المسبقة حول الخيال ودوره في تشكيل التجربة الإنسانية.


تكشف المادة الإثنوغرافية، أن الأحلام ليست انعكاساً سلبياً للظروف السياسية والاجتماعية، بل هي فاعل في حد ذاتها يؤثر في طريقة عيش الأفراد وتصورهم لعلاقاتهم بالآخرين. وما يزيد المشهد التباساً هو تداخل مفهومي «الرؤيا» و»الحلم» في الاستعمال المصري اليومي، حيث يُستخدم المصطلحان أحيانا بالتبادل. غير أن جوهر البحث لا يتركز على الأحلام العادية بقدر ما يسلط الضوء على الرؤى، بوصفها تجارب دينية أو أخلاقية ذات أهمية خاصة.
يصر كثير من المصريين المعاصرين، على أن زمن الرؤى قد ولّى، وأن معظم مفسري الأحلام مجرد دجالين، وهو موقف يمكن فهمه في سياق أوسع من عمليات التحديث والعلمنة التي شهدتها مصر منذ القرن التاسع عشر. فقد أعادت الإصلاحات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، تشكيل الجيش والإدارة والمدارس والمجال الحضري، لكنها في الوقت نفسه أعادت صياغة أشكال الذاتية والوجود والمعرفة. ومع صعود الرؤية الدنيوية للإصلاحيين الذين دعوا إلى وضع العالم الميتافيزيقي بين قوسين، والتركيز على الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، انحسر الاهتمام بالعالم غير المرئي وتقدمت النظرة المادية إلى الواجهة. وفي موازاة ذلك دخلت التفسيرات النفسية، خصوصا المتأثرة بفرويد، لتفسر الأحلام في ضوء الرغبات واللاوعي، متجاهلة إمكانيات أخرى لفهمها.
ومع ذلك، بقيت الأحلام مدخلاً ثقافيا، تحمل إمكانات تصويرية ودلالية تسهم في فهم الذات والآخر، وتخيّل المجتمعات. ومن خلال الأحلام أمكن تخيل مجتمعات بديلة تتجاوز حدود الدولة القومية والمجتمع العلماني. فهي تشكل وسيلة لتصوّر كيانات واسعة يمكن للناس أن يسكنوها رمزياً، وتعيد ربطهم بأفق يتجاوز ضيق الواقع السياسي. وفي التقاليد الإسلامية، تتمتع الأحلام بمكانة راسخة؛ فالنبي محمد بدأ تجربته «الوحيِيّة» بأحلام، وحسب الحديث النبوي فإن الرؤيا الصالحة تبقى من أشكال النبوة بعد وفاته. لذلك ظلّت الرؤى تحتفظ بمكانة خاصة في الموروث الإسلامي، وفي لحظات الإحياء الديني أو الطائفي، برزت من جديد، كما حدث مع ظهور العذراء في حي الزيتون في القاهرة عام 1968.

العلمنة والأحلام:

ولعل المسألة لا تتعلق بخسارة الإسلام شيئاً من خياله في سياق العلمنة، بقدر ما تتعلق بكيفية تشابك قصص الأحلام مع الحداثة العلمانية. فالإثنوغرافيا الدقيقة تمكّننا من فهم كيف يُعاد تصور الحلم والتخييل والتنافس على معانيهما في مصر، والمدينة العربية، اليوم. وتاريخياً، اختلفت طرائق تعريف الأحلام وتجربتها وسردها ونسيانها من مجتمع إلى آخر، بل من فترة إلى أخرى في المجتمع نفسه. عند الغزالي مثلا، الحلم ليس مجرد وهم يمكن ترويضه بالعقل، بل هو طريق محتمل إلى الحقيقة والوحي، بخلاف التصورات الفرويدية، أو الأرسطية التي رأت فيه انعكاساً زائفاً أو محض إشارات عشوائية. وكان انفتاح الغزالي على إمكانية الوحي الإلهي عبر الأحلام، تحدياً للنزعة العقلانية الصارمة التي استبعدت البعد الميتافيزيقي. تعتقد المؤلفة، أن اختزال الأحلام في إطار الصراعات النفسية، أو القلق الاجتماعي يُقصي تفسيرات الحالمين أنفسهم ويعيد إنتاج تحيز معرفي يرفض الاعتراف بواقعية هذه التجارب بالنسبة لمن يعيشها. فالأنثروبولوجيا، على خلاف التحليل النفسي، تمنحنا إمكانية التعامل مع الأحلام كحقائق اجتماعية وأخلاقية، ذات أثر فعلي في حياة الناس، ما يجعل تجاوز التفسيرات النفسية والوظيفية ضرورة منهجية، أو على الأقل الاعتراف بأنها محددة تاريخياً وجغرافياً وليست كونية. وعليه، لا ينطلق الكتاب من محاولة تحليل نفسية للمصريين، بل من تتبع كيفية روايتهم وتفسيرهم لأحلامهم والتأثير المتبادل بين هذه الأحلام وحياتهم اليومية.
ومن هنا تقترح المؤلفة مقاربة تدعوها «أنثروبولوجيا الخيال»، حيث يشكل الحلم عدسة لفهم المفاوضات المعقدة والمستمرة بين الإسلام والحداثة والواقع الاجتماعي. فالخيال ليس مجرد انفعال فردي، بل عنصر مؤسس في تشكل المجتمعات المتخيلة، كما وصف بندكت أندرسون الدولة القومية. وفي هذا الإطار، تصبح الأحلام مادة غنية تكشف عن الكيفية التي يخلق بها الأفراد والجماعات معاني جديدة لعلاقتهم بالله، بالآخر وبأنفسهم.
اعتمد البحث على روايات أربعة رجال من المتصوفة، ينتمون إلى مشهد روحي نشيط في مصر المعاصرة، حيث لم تتراجع الطرق الصوفية، بل توسعت وجذبت أفراداً من الطبقة الوسطى والعليا. ولأن الظروف لم تسمح بدراسة ميدانية واسعة، تم اللجوء إلى السير الذاتية كمصدر بديل، ما يفتح بدوره أسئلة حول العلاقة بين الإثنوغرافيا والسيرة الذاتية. الأهم أن الباحثة تعاملت مع الأحلام بوصفها حقائق قائمة لأصحابها، وليس مجرد ادعاءات بلاغية أو خطابات رمزية، ما يفرض تجاوز الصياغات التقليدية مثل القول، إن «فلانا زعم أنه رأى النبي» إلى القول ببساطة «فلان رأى النبي»، لأن هذا ما يعيشه الحالم على أنه واقعة حقيقية لا تقل صدقية عن الواقع العياني.
إن القوة الخطابية والأثر الأخلاقي والسياسي للأحلام هي ما يجعلها جديرة بالدراسة، فهي ليست أوهاماً تُهمل، بل وقائع تفتح إمكانات جديدة للتفكير والعيش. ومن خلال متابعة أثر الأحلام في مصر المعاصرة، يتضح أنها تشكل مورداً رمزياً ومعرفياً يمكنه أن يزعزع الهياكل السلطوية والتحليلات الاختزالية، وأن يفتح المجال أمام أنثروبولوجيا للخيال تكشف عن الطرائق المتعددة التي يمنح بها الناس معنى لحياتهم وتجاربهم.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب