
الجزائر: الصحافة تغرق في وادي الحراش

سعيد خطيبي
نهاية أسبوع مأساوية شهدتها الجزائر، عقب انحراف حافلة، مكتظة بالركاب، عن مسارها، قبل أن تهوى في وادي الحراش، مخلفة حصيلة ثقيلة، 18 ضحية، لأن الواقعة حدثت يوم جمعة، وهو يوم راحة تعوّد فيه الناس على الخروج، لقضاء حاجاتهم أو في زيارات عائلية. واحد من الشهود كان في طريقه إلى البحر، عندما رأى الحافلة تسقط في الماء الملوث للوادي، قبل أن ينزع قميصه ويقفز إلى الأسفل بدوره، وينقذ ما يمكن إنقاذه، من نساء وأطفال. أخرج أحياءً وكذلك جثثًا. ثم التحق به متطوعون آخرون، لحين وصول المسعفين، لكن لم يسعهم تفادي الفاجعة. وحالما سمعت بالخبر اتصلت بمعارفي، الذين يقيمون جنب المنطقة، للاطمئنان عليهم، وللأسف واحد منهم فقد شقيقه. ثم التمست من صديق أن يفيدني بما جرى. وكيف خرجت الحافلة عن مسارها، وما هي الأسباب التي أدت بها إلى السقوط في أطول وادٍ في العاصمة، الذي يصب في البحر الأبيض المتوسط.
لكن تعذر عليه الأمر، فقد احتشد المكان بمتطوعين آخرين وكذلك بفضوليين، بأيتام وثكالى. ولم يتح له بلوغ معلومة مؤكدة، ما اضطرني إلى الاستعانة بوسائل الإعلام، لأفهم منها حيثيات المصيبة. قبل أن أدرك أن الصحافة الجزائرية قد غرقت في وادي الحراش بدورها، هذه الصحافة في حد ذاتها بحاجة إلى من يسعفها، ويخرجها من الظلمة التي ارتمت فيها، فقد قضيت الساعات الأولى التي تلت الحادثة أطوف بين مواقع أخبارية، بين مواقع جرائد وقنوات تلفزيونية، فوجدت أنها تعلي من شأن المسؤول وتقلل من روح الضحية.
وتوالت أخبار تتشابه في ما بينها، من طبيعة: «الوزير فلان يصل إلى عين المكان»، «المسؤول فلان يصرح»، «وزير آخر يعلن»، وهكذا دواليك. فقد وجدت نفسي أتصفح صور مسؤولين، وأسمع كلاماً منهم يدور حول نفسه، بينما صور الضحايا أو أهاليهم تراجعت إلى مرتبة دنيا. وأكثر شيء يثير حزناً في القلب أن وسائل الإعلام راحت تهلل بخبر جلل، مفاده أن الدولة قررت تعويض كل عائلة متضررة بمبلغ 100 مليون سنتيم (أقل من 4 آلاف يورو). كانت اللحظة للحداد، للحزن، للسؤال عن خلفيات الحادث، لكن من بين وسائل الإعلام من أرادت أن تجعل منها انتصارا لأصحاب ربطات العنق، في تجاهل لدموع اليتامى والثكالى. في الأثناء تحولت وسائط التواصل الاجتماعي إلى منصة في محاكمة سائق الحافلة، وأنه من يقف وراء الحادث، ويتحمل المسؤولية كاملة. لا أحد تساءل كيف حصل على رخصة استغلال المركبة، وكيف أجازت له المراقبة التقنية السير بها. هكذا هو المشهد في الجزائر عقب فاجعة، أثارت الألم في قلوب الناس. ونحن نتحدث عن أكبر بلد في افريقيا، بينما حظيرة المركبات في جزء معتبر منها قد عفا عليها الزمن. حافلات مهترئة تشق الطرقات، ولا أحد حاسبها في ما مضى وحذر من الكارثة التي بوسعها أن تصل إليها، وتروح أرواح بريئة ضحية لها.
نتحدث عن وسائل إعلام، يفترض أنها مستقلة وخاصة، قدمت تغطية غير مهنية، مالت فيها إلى صوت المسؤول بدل صوت الضحية، اصطفت في جهة بدل أخرى. إن واقعة وادي الحراش جاءت من أجل تنبيهنا إلى الغرق الأكبر الذي ينعم فيه الإعلام في الجزائر، والذي تحول إلى إعلام حكومي، وصوت المواطن فيه هو أكثر الأصوات التي لا يصغي إليها أحد.
عندما نلتفت إلى التلفزيون، فإنه يحمل تسمية: المؤسسة العمومية للتلفزيون الجزائري. وكلمة «العمومية»، تفترض أن يتيح خدمة للعامة من الناس ومن المواطنين العاديين، لكن هذا التلفزيون يصر على افتتاح نشرات الأخبار، كل يوم بأقوال وأفعال علية القوم، يتحدث عن الرئيس، أو عن وزير. هل سبق لجزائري أن شاهد نشرة الأخبار، في التلفزيون العمومي، تفتتح أخبارها بحديث عما يجري في مدن أو بلدات البلاد البعيدة عن العاصمة؟ الإجابة بالنفي. لكن هذه المرة فقد صنع هذا التلفزيون الاستثناء، وافتتح نشرة الأخبار بفاجعة وادي الحراش، ولكن كالعادة بالحديث عما جاء على لسان مسؤولين أو وزراء. بينما الضحايا تحولوا إلى أرقام على لسان المذيعة/ ليس لهم اسماء ولا صور.
ويمكن تفهم الوضع في حال التلفزيون الجزائري، فقد تعود عليه الناس وتعودوا على أنه ناطق باسم الحكومة، لا باسمهم، رغم صفته وتسميته التي لا تتطابق مع محتوى نشراته، لكن المؤسف أن يتحول منطق التلفزيون إلى قاعدة عامة تسير عليها بقية وسائل الإعلام الأخرى في البلاد، التي جعلت من المتطوعين ومن الضحايا مادة ثانوية. فوسائل الإعلام في البلاد، ومهما تعددت منصاتها، من مواقع أخبار أو جرائد أو قنوات تلفزيونية خاصة، كلها تحولت إلى جوقة. تعزف نغمة واحدة. توجه كاميراتها صوب المسؤول وتشيح ببصرها عن الضحية، بل إن الضحية لا تصير لها قيمة إلا إذا وردت على لسان مسؤول. نشعر بأن الإعلام في الجزائر يقتبس رواية «الغريب» لألبير كامو. في هذه الرواية لا يصير للجزائري قيمة عندما يموت، إلا لأن الجاني فرنسي وهو نفسه بطل الرواية. والضحية في الجزائر كذلك صارت لا قيمة لها في حال لم يصل مسؤول أو وزير إلى موقع الفاجعة. لقد تعددت وسائل الإعلام في الجزائر وزاد عددها، بشكل كبير، في السنين الأخيرة، لكنها قررت أن تلبس ثوبا واحدا، ولا فرق في الانتقال بينها، لأننا سوف نصادف الصور نفسها، والمقاربات ذاتها للخبر. صار محتواها واحدا، ولا يعرف الجزائري أين يولي وجهه من أجل أن يعرف ماذا يجري من حوله، وفي بلده.
عندما سقطت حافلة في وادي الحراش، وخلفت ضحايا، أسقطت معها كذلك الإعلام، الذي وجد نفسه عاريا في مواجهة نفسه، إعلام لا يبحث عن الخبر بقدر ما يبحث عن صورة وزير أو مسؤول، بل عندما كان أهالي الضحايا يشيعون موتاهم في المقبرة، بعد انتشالهم من الوادي، كانت الكاميرا متجهة إلى وجوه المسؤولين.
كاتب جزائري