الغوغائية والتحريض الشعبوي : بين النظرية الكلاسيكية والخطاب التحريضي لليمين الإسرائيلي

الغوغائية والتحريض الشعبوي : بين النظرية الكلاسيكية والخطاب التحريضي لليمين الإسرائيلي
بقلم رئيس التحرير –
المقدمة
منذ أرسطو الذي اعتبر أن الديماغوجيا هي “انحراف الديمقراطية حين يستبدل القادة العقل بالعاطفة”، مرورًا بتجارب أوروبا الفاشية في القرن العشرين، وصولًا إلى الخطابات الشعبوية في إسرائيل اليوم، يظل الخطر واحدًا: تحويل الجماهير إلى أداة انفعال وغوغاء تهدد استقرار المجتمع وتُغذي سياسات الإلغاء والعنف.
الخطاب التحريضي للقيادات اليمينية الإسرائيلية – وفي مقدمتهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، إضافة إلى قادة المستوطنات – يقدم نموذجًا معاصرًا للديماغوجيا، قائمًا على شيطنة الفلسطيني، وتجريم وجوده، وشرعنة سياسات الجوع والقتل والتدمير. هذا الخطاب ليس تهديدًا للفلسطينيين وحدهم، بل يحمل في طياته مخاطر وجودية على المجتمع الإسرائيلي نفسه، وعلى السلم والأمن الإقليمي والدولي.
أولًا: الديماغوجيا بين النظرية والتاريخ
أرسطو في السياسة حذّر من أن انحراف الديمقراطية يبدأ حين يتسلط الخطباء الشعبويون على الجماهير ويُحوّلون القرارات إلى انفعال جمعي بدلًا من الحكمة.
في أوروبا القرن العشرين، قادت الديماغوجيا الخطابية هتلر وموسوليني إلى حرب عالمية أحرقت العالم.
في علم الاجتماع السياسي الحديث، يربط يورغن هابرماس غياب النقاش العقلاني بتغوّل الخطاب الشعبوي، فيما يرى غوستاف لوبون أن الجماهير حين تُقاد بالشعارات تصبح قابلة لأي عنف مُمأسس.
ثانيًا: خطاب اليمين الإسرائيلي كديماغوجيا معاصرة
- بنيامين نتنياهو:
يوظف الخطاب الأمني-الوجودي، مقدّمًا نفسه كـ”حامي إسرائيل” من تهديدات خارجية وداخلية.
يعتمد على تعبئة الخوف والقلق الجماعي لإدامة سلطته، متجاوزًا أزمات الفساد الداخلية عبر تصدير الأزمات نحو الفلسطينيين والإقليم.
- بتسلئيل سموتريتش:
صرّح مرارًا بأن “الشعب الفلسطيني اختراع”، داعيًا إلى محو قراهم ومصادرة أراضيهم.
خطابه نموذج صارخ لـ”سياسة الإلغاء”، إذ يُحاول إنكار وجود الآخر عبر التنظير لشرعية الاستيطان والضم.
- إيتمار بن غفير:
يمثل ذروة الديماغوجيا الدينية-القومية، إذ يستحضر النصوص الدينية لتبرير سياسات العنف.
يُشجع على حمل السلاح للمستوطنين، ويُبرّر قتل الفلسطينيين تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”.
- رؤساء المستوطنات:
خطابهم تعبوي قائم على فكرة “الأرض لليهود وحدهم”، وهو خطاب غوغائي يُحفّز المستوطنين على اقتحام القرى وحرق المزارع وممارسة سياسة الطرد القسري.
ثالثًا: المخاطر المترتبة
على المجتمع الإسرائيلي:
التحريض الديماغوجي يُعمّق الانقسام الداخلي (علماني/ديني – أشكنازي/شرقي – يمين/يسار).
يشجع على منطق “القوة فوق القانون”، ما يهدد بتحوّل إسرائيل إلى دولة محكومة بغوغائية الميليشيات بدلًا من مؤسسات القانون.
على الفلسطينيين:
شرعنة سياسات التجويع والقتل والتدمير، باعتبارها “أدوات دفاعية”، وهو ما يتعارض مع القانون الدولي الإنساني (اتفاقيات جنيف الرابعة، 1949).
تكريس سياسة الإلغاء ونفي الآخر، بما يحاكي سياسات التطهير العرقي.
على السلم والأمن الإقليمي والدولي:
الخطاب الديماغوجي يعمّق الاستقطاب الإقليمي، ويدفع نحو عسكرة الصراع بدلًا من البحث عن حلول سياسية.
يشكل تحديًا مباشرًا للنظام الدولي القائم على ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي، ومفهوم الأمن الجماعي.
رابعًا: مقاربة تاريخية
كما أفضت الديماغوجيا في أوروبا القرن العشرين إلى كارثة الحرب العالمية الثانية، فإن الخطاب الديماغوجي الإسرائيلي اليوم قد يقود إلى تفجير صراع إقليمي واسع، خصوصًا إذا استمرت سياسات التحريض ضد الفلسطينيين وتبرير العنف الجماعي. التاريخ يُعلّم أن المجتمعات التي تشرعن خطاب الكراهية تنزلق سريعًا نحو العنف الشامل والفوضى الداخلية.
الخاتمة
الغوغائية والديماغوجيا ليستا خطرًا أكاديميًا نظريًا فحسب، بل هما واقع ملموس في إسرائيل اليوم. فحين يُصبح “التحريض على الفلسطينيين” أداة سياسية لنتنياهو وسموتريتش وبن غفير، فإن الخطر لا يقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل يطال المجتمع الإسرائيلي من الداخل ويهدد الأمن والسلم الإقليمي والدولي.
الحصانة الحقيقية لا تتحقق بالشعارات والتحريض، بل بسيادة القانون الدولي، والحوار، والتسوية السياسية العادلة، لأن سياسة الإلغاء والقتل لا تصنع سلامًا، بل تفتح أبواب حروب بلا نهاية.
المراجع والهوامش
- Aristotle, Politics, translated by H. Rackham, Harvard University Press.
- Gustave Le Bon, The Crowd: A Study of the Popular Mind, London: T. Fisher Unwin, 1895.
- Jürgen Habermas, The Structural Transformation of the Public Sphere, Cambridge: Polity Press, 1989.
- Eric Hobsbawm, Nations and Nationalism since 1780, Cambridge: CUP, 1990.
- تصريحات سموتريتش (مارس 2023): “الشعب الفلسطيني اختراع”، منشورة في الصحافة الإسرائيلية (هآرتس، يديعوت أحرونوت).
- تقارير الأمم المتحدة حول الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين: مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، تقارير 2023–2025.