«راية العذراء تهزم المور في مراكش»: الأثر المغربي في ترانيم كانتيغاس دي سانتا ماريا

«راية العذراء تهزم المور في مراكش»: الأثر المغربي في ترانيم كانتيغاس دي سانتا ماريا

مروة صلاح متولي
لم يقتصر تأثير المغرب الحضاري والثقافي في أوروبا على الأندلس فحسب، وإنما امتد إلى الممالك المسيحية في شبه الجزيرة الإيبيرية، ويدلنا الكثير من الآثار على حضور المغرب وتأثيره في أوروبا منذ القدم. ويعد فن «كانتيغاس دي سانتا ماريا» أحد مظاهر هذا التأثير، وهو فن قديم من فنون العصور الوسطى، نشأ في القرن الثالث عشر في بلاط الملك ألفونسو العاشر ملك قشتالة وليون الملقب بألفونسو الحكيم.
كانتيغاس دي سانتا ماريا مجموعة من القصائد، أو الترانيم أو الأغاني التي تمدح السيدة العذراء، وتروي معجزاتها، وتجلياتها وبركتها وشفاعتها، أغلب تلك القصائد ألفها ألفونسو الحكيم بنفسه، وأشرف على ما ضُم إليها من فنون الرسم والموسيقى، فالمجموعة المحفوظة في مكتبة الإسكوريال الإسبانية أحد أعظم وأهم وأكبر مكتبات العالم، لا تحتوي على النصوص الشعرية وحدها، وإنما تضم التدوين الموسيقي للقصائد التي أعدت للغناء في الأساس، بالإضافة إلى اللوحات والرسومات الخاصة بكل كانتيغا أو قصيدة من القصائد، تعبر عن معانيها وتصور ما ورد فيها من أماكن أو شخصيات، وتصف ما وقع فيها من أحداث، كما تصور اللوحات بعض الشخصيات المغربية المعروفة في التاريخ، وتصور الموسيقيين والآلات الموسيقية المستخدمة في عزف الكانتيغاس. وتعد هذه المجموعة الشعرية الموسيقية المصورة، من المقتنيات الثمينة في الإسكوريال، تلك المكتبة الكبرى التي تأسست في القرن السادس عشر، ضمن مجمع دير القديس سان لورنزو دي الإسكوريال، وتعد من المعالم الإسبانية البارزة، وثروة وطنية تضم كنوز التراث والحضارة الإسبانية.
لا تزال ترانيم كانتيغاس دي سانتا ماريا تغنى بلغتها الأصلية، وتدوينها الموسيقي الأصلي القديم، ويمكننا أن نستمع إليها من خلال مجموعات وفرق إسبانية مختلفة، كما تُرجمت نصوصها إلى الإنكليزية والعديد من اللغات الأخرى.
ألفونسو العاشر.. الملك الحكيم
تضم المجموعة 420 قصيدة، تم تأليفها باللغة الغاليكية ـ البرتغالية، نظراً لأن هذه اللغة في ذلك الزمن القديم كانت لغة الشعر والغناء في الممالك المسيحية في شبه الجزيرة الإيبيرية، وكذلك لأن ألفونسو الحكيم الذي قضى بعضاً من طفولته في غاليسيا كان يجيد هذه اللغة. كُتبت هذه القصائد وتم إعداد تدوينها الموسيقي ورُسمت لوحاتها في القرن الثالث عشر الميلادي، ما يعني أن ذلك كان قبل قرنين تقريباً من سقوط الأندلس، فكان المغرب وحضارته الإسلامية في موقع القوي المنتصر، والسابق بتحضره وثقافته وفنونه وعلومه، وكانت الممالك المسيحية في شبه الجزيرة الإيبيرية في كل من إسبانيا والبرتغال، وغيرهما من المناطق الأوروبية، في موقع الضعيف المنهزم المتأخر حضارياً، الذي يتطلع إلى من سبقه ويستلهم منه ما يطوره ويطبعه بطابعه الخاص، ليصنع حضارة تمكنه من الوجود والاستقواء في مواجهة أي تهديد. وعلى الرغم مما كان يقع من تحارب بين تلك الممالك المسيحية والمسلمين في المغرب، كان التبادل التجاري قائماً، وكذلك كان التأثر الثقافي بالمغرب كبيراً وظاهراً، حيث نجد أن ألفونسو الحكيم قام بتأليف قصائده وصياغتها على غرار الشعر والزجل المغربي، واتبع الإيقاع المرن والقوافي السهلة، وأسلوب المقطع المكرر بين كل جزء وآخر من أجزاء القصيدة، الذي يعيد ويكرر فكرة معينة بالكلمات ذاتها. كما يعتمد عزف هذه الترانيم على الآلات الموسيقية التي كانت مستخدمة في المغرب كالرباب والدفوف، ويلاحظ التأثر بالتنغيم الصوتي، وأسلوب الغناء الجماعي خصوصاً في الغناء الديني في المغرب، والاعتماد على الخط الميلودي الواحد، والنغمة المتكررة، مع بعض التغييرات التي يتطلبها الحدث والحالة الشعورية.
ألفونسو العاشر أو ألفونسو الحكيم من أشهر الملوك الذين عاصروا فترة من الفترات الأندلسية، كان يحارب المسلمين في الأندلس والمغرب، لكنه كان مولعاً بفنونهم وآدابهم، مهتماً بعلومهم أشد الاهتمام، حريصاً على ترجمتها واستلهامها والاستفادة منها. وكانت لديه نزعة قوية نحو الفلك والقانون، بالإضافة إلى الشعر والتاريخ وشتى مجالات العلوم، ومكنه ذلك من أن يلعب دوراً كبيراً في النهوض ببلاده طوال فترة حكمه، التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً. كما كان يسعى إلى توسيع مملكته واسترداد المزيد من الأراضي الإسبانية المحتلة. كان يحارب المحتل من جهة، ومن جهة أخرى يحرص على استخدام ثقافة هذا المحتل من أجل الارتقاء ببلاده، وقد شهد عصره حركة ترجمة كبرى للنصوص العربية وكتب العلوم والمعارف الإسلامية، فقد كان صاحب نهضة فكرية علمية وفنية كبرى في تاريخ أوروبا، إلى جانب أنه كان ملكاً سياسياً وقائداً عسكرياً. وتعكس كانتيغاس دي سانتا ماريا، وعياً سياسياً كبيراً لدى هذا الملك الحكيم، فلا تمنع محاربة المحتل من الاستفادة من حضارته، كما كنا في بلادنا نحارب الإنكليز على سبيل المثال، وفي الوقت نفسه نسعى إلى الاقتداء بهم في كل ما هو جيد لديهم، وبما حققوه وسبقوا به في العلوم والفنون والآداب، وكما جاء لنا الاستعمار الغربي بفوائد لا تُنكر، رغم ويلاته وسوء مسعاه، كذلك استفاد الإسبان من وجود المغاربة والمسلمين على أرضهم في الأندلس، واتخذوا من الحضارة والثقافة المورية الأندلسية قاعدة ومنطلقاً لنهضتهم، وكذلك فعلت أوروبا التي كانت تتطلع إلى تلك البقعة المضيئة في إسبانيا، التي كانت تسمى الأندلس.
الوجود المغربي في الخيال الأوروبي
كما يبدو من عنوان هذه المجموعة الشعرية «كانتيغاس دي سانتا ماريا»، أنها أغنيات، أو ترانيم خاصة بالسيدة العذراء، تدور مواضيعها حول معجزات البتول أم النور، وأفضال بركتها وشفاعتها، وتقوم كذلك على مدحها وتمجيدها وطلب العون منها. وجدير بالذكر أن السيدة مريم العذراء خير نساء العالمين المصطفاة المطهرة، كائنة في قلب المسلم كما هي كائنة في قلب المسيحي، وكما يردد المسيحي من إنجيل لوقا: «ودخل إليها الملاك وقال لها سلام عليك أيتها المنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء». يردد المسلم من القرآن الكريم: «وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين». وهناك من المسلمين في مصر من يصوم مع المسيحيين صوم العذراء في شهر أغسطس من كل عام، طلباً لبركتها والتماساً لشفاعتها.
الكانتيغاس إذن في مجملها أناشيد للعذراء، لكنها أناشيد ترتبط بواقع زمانها والظروف السياسية المحيطة بهذا الواقع، لذلك نجد في هذه الأناشيد، حضوراً كبيراً للمغرب يتمثل في أسماء مدن وأماكن، لا تزال موجودة حتى اليوم في المملكة المغربية، وتحمل الأسماء ذاتها التي وردت في الكانتيغاس، مثل مراكش وطنجة وسوس وأم الربيع وغيرها من الأماكن، وكذلك نجد شخصيات معروفة كالملوك والسلاطين الذين حكموا المغرب في فترات مختلفة، ونجد الملابس المغربية التقليدية، التي لا تزال تتربع على عرش الموضة بجمالها وأناقتها، ولم يتجاوزها الزمن رغم مرور كل هذه القرون الطويلة، فلا يزال القفطان علامة مغربية خالصة تبهر العالم، سواء القفطان النسائي أو القفطان الرجالي الذي نراه في بعض لوحات الكانتيغاس، يرتديه الملوك والأمراء، ويعكس مدى فرادة الطابع المغربي ولمساته الفنية في تصميم الثياب. كل هذا إلى جانب الحضور المغربي من خلال استلهام الموسيقى والإيقاع والزجل المغربي كما ذكرنا من قبل.
كذلك نجد حضوراً هائلاً للمور في كانتيغاس دي سانتا ماريا، والمور هم أهل المغرب ومنهم جاء اسمه بالإنكليزية Morocco والعديد من اللغات الأخرى. تُذكر كلمة المور بكثرة في الكانتيغاس وتتصدر عناوين العديد من القصائد، ولا نكاد نجد في هذه القصائد ذكراً لكلمة «عربي» أو «عرب»، بينما وردت كلمة «مسلم» ثلاث مرات فقط في ما نعلم، وقد يرجع ذلك إلى أن كلمة مور تشير إلى أهل المغرب المسلمين، فلم تكن هناك حاجة إلى ذكر كلمة مسلم بكثرة. داخل نصوص القصائد أيضاً نجد اسم المغرب وكلمة مور، كما كان المور موضوعاً للعديد من القصائد، التي يجب الأخذ في الاعتبار عند قراءتها أو سماعها، السياق السياسي والديني والفترة الزمنية التي ظهرت فيها، فآنذاك كان الموري هو العدو المهدد للوجود، أو هو الآخر على أقل تقدير، لكن هذا الآخر كان الأقوى والأشد بأساً والأسبق في الحضارة، الذي بسط وجوده على الأرض والعقل والوجدان، وأقام حضارة كاملة باسمه في أوروبا، لذا نجد هذا الانشغال بالمور والهوس بهم إذا جاز التعبير، ويجب أن لا يتوقع المرء من هذه القصائد مدحاً في المور أو تمجيداً لهم، أو انسحاقاً ظاهراً أمام ثقافتهم، على الرغم من استلهامها، فهناك التشبث بالهوية والدين، ومحاولة تحقيق انتصارات على المور، وإثبات الأفضلية من أي نوع وبأي طريقة، وكذلك تأكيد فضل الدين المسيحي والسيدة العذراء على المسلمين، لكنها في الوقت نفسه لا تبث الكراهية بشكل كبير وليست مكرسة بالكامل لإشعال العداء، لا شك في أنها تنطوي على أهداف سياسية ودينية واضحة، لكنها تعبر عن التطلع إلى المغرب كخصم قوي وإلى المور كالآخر المتفوق حضارياً، والاهتمام بما يحدث على أرض المغرب، والحق أننا نجد بعض القصائد التي تتسم بالمحبة والسلام، وإن كان ذلك في إطار الأفضلية المسيحية أيضاً بطبيعة الحال. ومن عناوين القصائد التي وردت فيها كلمة المور، «الموري الذي قدس صورة العذراء»، «السجين الذي فرّ من المور»، «الأسير في مايوركا الذي هرب من المور»، «المسيحيون والمور جنباً إلى جنب». أما الكانتيغا التي سنركز عليها في هذا المقال، فهي الكانتيغا رقم 181 التي تحمل عنوان «راية العذراء تهزم المور في مراكش».
حصار مراكش في الكانتيغا رقم 181
«راية العذراء تهزم المور في مراكش» من يقرأ هذا العنوان قد يظن للوهلة الأولى أن الموضوع يتناول معركة بين الممالك المسيحية والمغاربة المسلمين، لكن المعركة في حقيقة الأمر كانت بين ملكين مغربيين مسلمين، الأول هو الموحدي أبو حفص عمر المرتضى، والثاني هو المريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق، والواقعة هي حصار مراكش الأول الفاشل، الذي قام به المريني ضد الموحدي. وفي اللوحات الخاصة بالكانتيغا نرى السلطان الموحدي أبو حفص عمر المرتضى، يرتدي قفطاناً مغربياً مطرزاً بالسفيفة، وإلى جانبه بعض مستشاريه بالإضافة إلى سفراء من قشتالة.
تبدأ الكانتيغا رقم 181 بأسلوب مسرحي حكائي مشوق، يجذب السامع ويثير رغبته في معرفة القصة وتتبع الأحداث، كما لو أن الراوي الذي يفتتح الغناء يقف على خشبة مسرح، أو في حلقة من الحلقات في المغرب، ينادي بصوت مرتفع ويدعو الجمهور إلى الاجتماع من حوله، معلناً عما سيرويه وما سيقدمه من فن. وفي ذلك أيضاً أسلوب تسويقي، كما لو أنه يبيع بضاعة ما للناس، وهذا يؤكد فرادة كانتيغاس دي سانتا ماريا، من حيث أنها ليست مجرد ترانيم للعذراء بالشكل الكنسي التقليدي المتعارف عليه، وإنما هي في الوقت ذاته أغان شعبية تخاطب العامة في الشارع وفي كل مكان خارج الكنيسة، ويبدو جلياً أن ألفونسو الحكيم كان يستهدف الشعب من خلال هذا الفن، سواء في لغته وأسلوبه وموسيقاه، أو في مواضيعه التي تعتمد في أغلبها على السرد القصصي المشوق، والمعجزات التي تحرك العاطفة الدينية وتذكي روح الإيمان، بما لهما من تداخل عميق مع السياسة في ذلك الوقت، حيث كان المسلم هو المحتل، والمسيحي هو من يسعى إلى تحرير أرضه واستعادتها.
هي إذن قصائد لم يؤلفها هذا الملك السياسي الحكيم من أجل اللهو بلا هدف أو غاية، ويمكن القول إنها مشروع سياسي ديني ثقافي كبير، وتاريخ تم صنعه بوعي لكي يبقى ويخلد. وتعد الكانتيغاس أيضاً من خير الأمثلة على التدافع بين الأمم والشعوب والحضارات، والتداخل الثقافي، والاعتراف بتفوق الأمم السابقة، وضرورة الاستفادة مما لديها من علوم ومعارف وفنون، رغم التحارب والمعارك السياسية على الأرض. وهي كذلك تأريخ وتوثيق بالغ الأهمية للعديد من الجوانب السياسية والثقافية الخاصة بالمغرب.
في بداية الكانتيغا نستمع إلى صوت منفرد يقول بإلقاء مسرحي: «هذا ما حدث لأبي يوسف، وهكذا هُزم في مراكش أمام راية العذراء»، أما المقطع الذي يتكرر تسع مرات بين كل مقطع وآخر من مقاطع القصيدة فيقول: «العذراء تساعد الذين يحبونها، وإن كانوا على دين آخر». تروي لنا هذه الكانتيغا كيف حققت العذراء معجزة رائعة في مدينة مراكش «الجميلة والكبيرة» كما تصفها القصيدة، عندما كان هناك ملك موري يخوض حرباً ضد ملك موري آخر، ولهذا كان بحاجة إلى العون والمساعدة من كل من يستطيع أن يمده بهما. كان أبو حفص عمر المرتضى محاصراً داخل مراكش، لأن أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق كان قد عبر مع جنوده نهر أم الربيع، هذا النهر الذي تذكره الكانتيغا هو أحد أنهار المغرب الجميلة ولا يزال يحتفظ بالاسم ذاته. ينبع هذا النهر الكبير من سلسلة جبال الأطلس المتوسط، ويتجه غرباً ليصب في المحيط الأطلسي، وكانت الأراضي الواقعة جنوب هذا النهر تابعة لمراكش، لذلك كان عبور نهر أم الربيع، يمثل خطراً على أبي حفص عمر المرتضى في مراكش، ويمكن المعتدي من حصار المدينة.
يروي كل مقطع من القصيدة مراحل الحدث وتطوره حتى النهاية، ويأتي المقطع المعاد المتكرر الخاص بالعذراء كفاصل بين المقاطع واستراحة تزيد من تشويق السامع. هرع المعتدون إلى أبواب المدينة المغلقة، وأخذوا بالقوة كل ما وجدوه خارج الأسوار، عندئذ تلقى الملك الموحدي نصيحة من بعض مستشاريه وبعض القشتاليين، بأن يخرج لمواجهة عدوه حاملاً راية العذراء لينال شفاعتها، وأن يرفع كذلك بعض الصلبان. وعندما رأى الموريون التابعون للملك المريني راية العذراء شعروا بالخطر، وهُزموا على الفور رغم قوتهم ببركة البتول، وفقدوا عتادهم وأسلحتهم وكل شيء، ومات منهم عدد كبير، وتراجعوا إلى خلف نهر أم الربيع. وهكذا ساعدت العذراء من يحبونها، رغم أنهم كانوا على دين آخر، وأعانتهم على هزيمة أعدائهم وإنقاذ مدينتهم من الحصار. كان ألفونسو الحكيم يخوض معارك مع المغرب من حين إلى آخر، ويسعى للتحالف مع ملوك موريين ضد ملوك موريين آخرين، ولا تخفى الدعاية السياسية والدينية في هذه الكانتيغا التي تتناول الواقعة التاريخية من وجهة نظر معينة.