
مركزية السطح وعلاماته في لوحات العراقية زينب حسين الأركوازي

جاسم عاصي
أن تتعامل مع اللون من أجل خلق التنوع على أساس المتخيّل الفني، يعني عكس القدرة على خلق التوازن النفسي بين النموذج، وما يحيطه من عوامل الخلق الفني. ثم إن مثل هذا الفعل الفني بطبيعة الحال مرتبط بجوانية الأسس الفكرية ــ الجمالية المرتبطة أيضاً بالمتخيّل. أرى أن هذا ليس بالأمر السهل، وفي المقابل ليس صعب التحقيق. أسوق هذه الخاطرة المرتبطة بالبنية الفكرية لا لشيء سوى أنها نوع من الاستنباط الذي فرضته أعمال الفنانة زينب حسين الأركوازي ذات البُعد الأسطوري والشعبي، في استعمالات ذكية دالة على معرفة متحركة بانية لتوجه فني ــ نفسي يعمل على قراءة الداخل من النماذج، لاسيما وأن البورتريه هو السائد على مجموع اللوحات المتوفرة، كذلك الاقتصار على الجنس الأُنثوي الكاشف للمشاعر والانفعالات العامّة والخاصة، بمعنى ما يتركه الزمن من أثر على النموذج الذي دُرس بعناية، كما توحي به الأعمال المستفيدة من مجموع الألوان بنسيج منسجم ومتوائم، للكشف عن أبعد المشاعر والأحاسيس. إن العناية بالإشارات المعتمدة على اللون والخط يضعنا أمام قدرة اللوحة على اللّم والاحتواء لكل ما من شأنه التعبير عن الشعور الكاشف للطبيعة البشرية وهي تواجه حصار الأزمنة، وتأثير الأمكنة بما فيها البيئة التي أولتها ريشة الفنانة أهمية، وأعطت دوراً فاعلاً في عكس تأثيرات البيئة من جهة، وما تفرضه مفرداتها من جهة أُخرى، خاصة الزي الشعبي للكرد، وحصراً زي الأنثى المتكرر لتعميق جماله، وابتكاره لإضفاء جمالية جديدة. لذا نجد في السطح طبيعة الزي باعتباره نوعاً من المركزية التي تحتوي الأشياء من علامات دالّة على بنى متعددة.
طبقات اللوحة
ما نعنيه بالطبقات هو التراتب والتوالي، اللذان يأتي عليهما الشكل العام للوحة، حيث يشكل البناء العام والجزئي مجموعة استعمالات تعكس اشتغال المفردات، لصقل وإبراز المعنى العام الذي هو مركب من الأشكال والجزئيات. بمعنى لا نعثر على زيادات تتوزع على السطح. وهذا له مساس بالشعرية التي تُبنى عليها اللوحة. فالسطح مجال لعكس مجموعة علامات تتظافر وفقها المعاني، تماماً كالشعر الذي يبني معماره على المفردات والبناء المعماري. فاللوحة عند الفنانة عبارة عن عمارة تطلبت التفكير في الكيفية في البناء. وبذلك يحصل المتلقي البصري على دوافع الجمع والفرز والتفكيك من أجل توليد قناعة بالتكامل. فلا اللوحة كاملة الصياغة، ولا الفحص البصري يعمل كذلك. هنا يجب التأكيد على التظافر بين كل المكونات، تماماً مثل بناء السلالم الموسيقية التي لا تتقبل النشاز، سواء في التدوين أو العزف، فالفنان يترك لوحته بعد مراحل من الخلق الفني. وما نجده في لوحات الفنانة زينب رغم سيادة البورتريه، إلا أنها تثابر على الحصول على المحصلة وفق قناعات فكرية ـ جمالية. هذا التواؤم لا يغادر الفنانة، لكنه في لوحاتها له حضور واضح. فالطبقات هنا هو نوع من التنويع والضرب على سلالم نابضة ومطلقة للمعاني، كما العزف ودور الموسيقى وهي تؤدي وظائفها الفنية. لذا فطبقات اللوحة تعني مستويات إخراجها وإنضاج مقوماتها، وفق توالٍ في صفوف معمارية معنية بطبقاتها.
هندسة الشكل
الهندسة فن قبل أن تكون علما، فالفن يُلازم كل العطاءات الإبداعية. واللوحة شأنها شأن الأجناس الأُخرى، يكون بينها وبين تلك الأجناس علاقة بنائية. فكما ذكرنا العلاقة بالشعر تؤكد بالإيقاع نفسه العلاقة بالهندسة. فثمة هندسة للمعمار العام للوحة، وتهيئة السطح لاستيعاب ما يأتي من مفردات. كذلك البحث عن التوازن، الذي يجمع هذه المفردات في مبنى واحد متوازن ومتوائم. فالهندسة هنا سبيل لتوازن الأشكال الجزئية بالأشكال الكلية، وهي ممارسة يعمل عليها العقل الفني والعقل الهندسي، أي العلمي البحت والجمالي البحت أيضاً. الفنان هنا لا يتخلى عن معارفه الخاصّة والعامّة، بل يستجيب لها والتخلص من الانفعال الفني، والإمساك بالقوة الجامعة للمصدرين لصالح بناء اللوحة، التي تتطلب التبصر والتأني في الإنتاج. نجد في مجال الهندسة حتى في شكل الوجوه وهندستها (تقاسيمها) وشكلها العام، وعمق انفعالها سلباً أو إيجاباً. كل هذا يخضع بطبيعة الحال إلى فعل العقل في تشييد النموذج ومتطلباته، فالهندسة هنا هي المقياس الذي تترتب عليه محتويات السطح.
موسيقى الألوان
لحقل الموسيقى علاقة بالهندسة، أي هندسة الشكل يرتبط بالحس الموسيقي للفنان. فهو في تطبيقه لمتطلبات اللوحة يعمد إلى الاستعمال الموسيقي، أي خلق التوازن الممكن لمكونات السطح وانسجام العناصر المشكلة للوحة. فالموسيقى أفق واسع يمكن التحرك في مجاله بكل حرية وتمكّن. فالشاعر لحظة كتابة القصيدة يمتلك أفكارا تُعينه على القول الشعري، والموسيقى تحيط بهذا الجهد لخلق جمالية اللغة الشعرية. والفنان دون أن يقصد يخضع لذاته المتمرسة بالمعرفة الشاملة التي تدفعه إلى اختيار التوازن الموسيقي على السطح. فنحن كمتلقين يهمنا التوازن، ويطربنا بالتراكم النغمي الذي تنتجه الموسيقى في ذاكرة المتلقي البصري. لذا لا فكاك من البحث عن هذا المنحى للاتصال مع المنتج الفني، لأن هذا التوازن له علاقة بالمزاج ومستوياته النفسية. ولعل الدخول إلى قاعة العرض تعني البحث عن تجدد المزاج وإثراء المعاني والتطلع إلى التعرف على العالم عبر فن غزير ولام للحاجات النفسية. فبقدر ما يراعي الفنان البُعد النفسي لذاته، عليه أن يُراعي مزاج المتلقي، وحاجته للحرث في ذاته وسجل معارفه. فاللوحة تعكس العلاقة بين ذاتين تراعي الأولى حال الثانية. وبهذا يبرز التخاطر والتواؤم معرفياً بين اللوحة والذات المتلقية.
الأُنوثة
لعل مجموعة اللوحات المتوفرة تشتغل على مركز واحد هو الأنوثة، باتباع فن البورتريت. من هنا يتجسد المشهد في دراسة الملامح والقسمات الظاهرة على الوجه. وهي في معظمها دالة التأشير على البعد النفسي للنموذج المعبّر عن مختلف الأعمار كنماذج في اللوحات. المهم في هذا النمط هو كشف البُعد النفسي وعلى مستويات متباينة. أرى أن الفنانة أفلحت في تقصي هذا بشكل دقيق. وعمل التحقق هذا في الاتكاء على نمط الزي الذي ينتمي إلى الموروث، واكتمل من خلاله العطاء الذي أتاح للفنانة الارتقاء باللون إلى مصاف الأناقة وكشف المخبأ من المشاعر وتجسيد مستوى قوة الشخصية. إن ظهور النموذج النسوي بهذه الهالة من التصرف بالألوان وتعميقها، تم وفق ذائقة فريدة ومدروسة. لقد كشفت هذه الاستعمالات تحقيق نوع من الوقار الأنثوي، فكل نموذج مكتف بخصائصه الظاهرة والمضمرة عبر التعامل الحذر مع الألوان، وتجنب اللعب في التكديس، بل الاقتصار على الدلالة التي يُعطيها اللون المرتبط أساساً بالأُسطورة ودلالاتها عبر التاريخ، خاصة اللون الأحمر، كما هو رداء الإله (تموزــ دموزي) والإلهة (عشتار) والإله (مردوخ ).. وأخيراً قميص (يوسف) النبي. ففي هذا لعب اللون الأحمر دور التخصيب، وإشاعة النماء الذي تجسد على وجوه النماذج في اللوحات، لاسيما الاختيارات الأمثل في التأطير والإحاطة البيئية. ولعل سمات الدهشة كحاصل تحصيل للبعد النفسي أسهم في الكشف عن أهم سمة تتحلى بها الأُنثى وهي، الاندهاش إزاء المتغيرات. ناهيك عن سمة الصرامة الدالة على قوة الشخصية، وعكس خاصية الحلم الذي يشكل منحى مهماً في الإنسان، وح
صراً الأنثى. الحلم الذي يوحي بالخفر الأُنثوي باعتباره سلاح قوة البراءة، ويمثل البعد الأخلاقي للنموذج. يُضاف إلى هذا الصرامة الدالة على الجدية وقوة الشخصية.
الرموز الأُسطورية
لا شك أن استعمال بعض المؤثرات البيئية تكون وتتكون من أُصول أُسطورية تعارف عليها العقل الفردي والجمعي في التاريخ القديم، كالماء والسمكة والطير والأهلة، كالهلال والقمر وانتمائهما إلى آلهة قديمة. ووسط هذا الفيض من الرموز أعطت الفنانة لهذه الرموز حاضنة تؤكد فعلها في النص المرئي، عبر تشكيلها على صورة الحلم، الموزعة عناصره والمتداخلة مع البؤر المؤثرة. ولعل المثلث السائد ومجموع طبقات النص واللون الأحمر المشوب بالأصفر القاني وصورة الخوف والهلع والاسترخاء والصرامة. كل هذه السمات إنما تنتمي إلى البعد الأُسطوري الذي يعبر مباشرة عن طبيعة الظروف المحيطة بالإنسان. إن هذا التعامل مع اللون والحركة، دليل على أسطورة النظرة التي يمليها على الفنان نوع من الانفعال الداخلي، الذي يجد ضالته في الخارج كتحقيق واستجابة للضاغط النفسي للإنسان. وفي لوحة تجمع الكثير من الطبقات التي يدل عليها المتخيّل الفني الذي يأخذ بريشة الفنانة لوضع علاماته الأُسطورية كالآتي:
ــ حراك متعدد الجوانب.
ــ عالم مضطرب ومقيّد.
ــ عناصر مجتمعة (الخير والشر والاستلاب).
وأعلى كل هذه المتناقضات يبرز الطير كعلامة تمحي كل هذه المؤثرات، لما لرمزه من دلالات متعددة. وأهمها السلام والدعة في الوجود.
جدلية الوجود
نعني بجدلية الوجود، احتدام تشابك العناصر في الوجود، التي تعكس حدة التناقض في الحياة. والجدل هنا فيه نوع من دوافع الصراع المستتر والمكشوف في التاريخ للأفراد والجماعات. وفي لوحات الفنانة ثمة روح لهذا الصراع عبر محاولات كل النماذج بدلالاتها التي ذكرناها، تبرز حصيلة متحققة هي انتصار الإنسان على عناصر الشر، والذي يؤكد هذا أن ممارسات النماذج التي نجدها متحركة وفق التلقي الصوري تمتلك أُسلوب الوقوف أما المعاكس لبلورة موقف يرمي إلى الانتصار لعناصر الخير. وأرى أن هذا الحراك يشمل كل اللوحات المعبّرة عن الفرح والحزن والقلق، والصراع من أجل الوجود، ما يمنحنا صورة مؤكدة على انتصار إرادة الإنسان في طرد الشر. فالحزن مثلاً لا يكشف اليأس، بل يعبر عن موقف، كذلك الصرامة والدهشة وما إلى ذلك مما يواجه الإنسان كتعبير عن موقفه. وهو بالتالي صورة التعبير عن جدلية الوجود وبالتالي تحقيق انتصار الإنسان على عناصر الشر في الحياة. ولعل ما وفرته لنا لوحتان هما (لوحة علبة الشراب الغازي المعوجة + صورة إناء تسخين الماء) دليلان على جدلية الوجود، في احتدام الصراع والوصول إلى الذروة المنتجة لصورة العالم المشرق.
إن لوحات الفنانة زينب حسين مجموع صور جادّة للتعبير عن محنة الإنسان وهو يواجه عقبات تُحيل بينه وبين المتحقق. وبالتالي كانت نظرة الفنانة أكثر تفاؤلاً ورغبة في التغيير المتواصل.
كاتب عراقي