ثقافة وفنون

لا حليب في مدن الثلج

لا حليب في مدن الثلج

بروين حبيب

كتبت أغاثا كريستي مرة «حبّ الأم لطفلها لا يشبه أي شيء آخر في العالم. إنه لا يعرف قانونا ولا شفقة، ويتحدى كل شيء ويسحق بلا رحمة كل ما يعترض طريقه»، استحضرتُ هذه المقولة وأنا أنهي رواية «مدن الحليب والثلج» للروائية البحرينية جليلة السيد الصادرة قبل شهرين (يونيو/حزيران 2025) عن دار الرافدين. وهي الرواية الثانية للكاتبة، بعد روايتها الأولى «أنا لست لي»، وتسع سنوات من الفارق الزمني بين صدور الروايتين، أنضج تجربة جليلة فقدمت لنا رواية مغايرة في أجوائها وقضاياها. على مساحة 220 صفحة مقسمة إلى 25 فصلا تتناسل الحكايات على لسان بطلة الرواية وراويتها لولوة البحرينية. والعتبات النصية الثلاث الأولى في الرواية، تسلمنا مفاتيح تدخلنا مباشرة، ودون مقدمات في ثيمة الرواية الأصلية. بدءا من العنوان «مدن الحليب والثلج» الذي يجمع النقيضين، وإن اشتركا في صفة البياض التي تكون أحيانا مخادعة، فالحليب ارتباط بالأرض، واستدعاء للأمومة التي تمثل الخصب والحنان، ويمثل الحليب أيضا صلة الوصل بين الأم وأطفالها، أما الثلج فخلف المظهر الجميل ذي البياض الناصع يكمن البرد والموت والوحشة وانعدام العواطف، وهذا جميعه نجد تجلياته في الرواية.
أما الإهداء العتبة النصية الثانية: فجملة تلخص لنا الرواية في كلمات معدودة «لمغتصبي الطفولة باسم الحرية والحماية، سيقاضيكم التاريخ وأنا»، ويفتح شهية الأسئلة: من هم مغتصبو الطفولة؟ ولماذا يحاكمهم التاريخ؟ وما علاقة الكاتبة بهم؟ ولا تمهلنا الكاتبة لنسترد أنفاسنا حتى تفاجئنا بجمل افتتاحية صادمة «سحبوا جُمان ثم يوسف وكريم، ثلاثُ أرواح تُنتزع مني بقرار بارد. بشخطة قلم فوق ورقة، كأن الأمومة بندٌ قابل للحذف وقلبي مجرد ملف»، في إحالة واضحة وصريحة لثيمة الرواية الأساسية: أم تُحرم من أبنائها الثلاثة. ونفهم من الفصل الأول أن الخاطف مؤسسة رأت المصلحة الفضلى في إبعاد الأولاد عن أمهم، ولكن.. كيف وصلنا إلى بؤرة التوتر هذه؟ ذلك ما ترويه لنا جليلة السيد بعد هذا الفصل التمهيدي المقتطع من سياقه والذي أثار فضول القارئ.

هذه الأم ليست سوى امرأة بحرينية تروي قصتها بنفسها، شاءت لها أقدارها أن تعيش المآسي المتتابعة منذ لحظة ولادتها، فحتى انتماؤها لوطنها البحرين يكدّره أن أمها سورية، فبقيت لولوة ينظر إليها على أنها «بنت السورية» من إخوة الدم أنفسهم، الذين ما أن توفي والدهم حتى زوجوها وهي فتاة مراهقة لرجل يكبرها سنا، إذا بحثنا له عن خصلة لم نجد سوى البخل «فغضبه ينفجر كلما فكر في فواتير الكهرباء، يخشاها أكثر مما يخشى الله»، وخلال ثلاث سنوات لم يجمع الزوجين أي موضوع مشترك ولا فكرة ولا ذكرى تستحق البقاء، كانت نتيجة هذا الزواج غير المتكافئ أن تطلقت لولوة وهي في التاسعة عشرة من عمرها، بعد أن أصبحت أما لبنت مميزة سمتها «جمان» مثل والدتها الشامية. وكان طلاقها فسحة أمل جديدة فتابعت تعليمها، وتوظفت وربّت ابنتها بمساعدة والدتها، وكان يمكن للحياة أن تستمر وادعة، لولا حادثة أحدثت شرخا في علاقتها بطفلتها، فقد تعرضت جمان للتحرش (وهو الثيمة الأخرى الأساسية في الرواية) من قبل حبيب أمها المثقف الشهم، الذي تطوّع بإيصال الطفلة إلى مركز الموهوبين، وكان في عيني لولوة «رجلا يشبه فصلا نادرا في كتاب لا يعاد طبعه»، فخلف المظهر اللائق والثقافة والنبل يختفي وحش آدمي. ويطل التحرش ثانية برأسه مع البنت نفسها وقد أصبحت مراهقة عند أسرة تبنٍّ في السويد لتصبح جمان «ترند» في وسائل التواصل وخبرا موجعا «انتحار فتاة عربية من أطفال السوسيال بعد تعرضها للاغتصاب عند عائلتها البديلة جراء تناولها جرعة كبيرة من المهدئات».

وقد مهدت الروائية لهذا الحدث المفصلي في بنية الرواية، بحكايات أشبه بروافد مائية تصب في النهاية في نهر واحد، باقتدار فني على البناء لا نستشعر معه بأي نشوز ولا نقلات مفاجئة، فلولوة تزور بيت خالها في الشام مع ابنتها وتغرم بابن خالها عصام رفيق الطفولة المشاكس، الذي يلتحق بالجماعات الإسلامية في الموصل مكرها، بعد أن عاش القمع من نظام قال عنه «عاش في سريرنا جعلنا نشك في أحلامنا يراقب نبض الفكرة وهي تختمر في رؤوسنا»، لدرجة أن أصبحت النظرة في سوريا تهمة والاسم قيد والشارع فخ. ولكن ما فر إليه عصام ليس أفضل مما فر منه، فقد اكتشف أن «داعش لم تكن يوما خلاصنا، كانت انعكاسا لوحشية عايشناها بأم أعيننا»، فيبدأ مع حبه القديم لولوة – التي أصبحت زوجته- حياة بعيدة عن القهر والقمع في بلده، لاجئا في بلاد الثلج السويد، راجيا هو وزوجته أن ينعما بحياة هانئة في ظل الديمقراطية والحرية، التي لطالما تغنت بها البلدان الغربية، ولكن وحشا يدعى «السوسيال» (إدارة خدمات الشؤون الاجتماعية) يقلب حياة الأسرة الوادعة إلى الجحيم بعينه، فلولوة التي رزقت بولدين من ابن خالها عصام أحدهما مصاب بطيف التوحد والثاني رضيع يبلغ عدة أيام ينتزعان منها، في ما يشبه عملية اختطاف من السوسيال، والتهمة جاهزة «الأم تعاني من تعلق مفرط وتعيق استقلال الطفل»، ويسلَّم الأطفال إلى عوائل غريبة مثلما اشتكى رجل في مركز الإيواء «ابني الأكبر عند عائلة مسيحية، الأصغر عند زوجين مثليين، والبقية لا أعلم أين هم». ولم تقف المأساة عند هذا الحد، فحتى جمان التي أصبحت في الخامسة عشرة من عمرها يفصل بينها وبين أمها، لأن الوالدة صفعت ابنتها حين علمت أنها تدخن، وبحرمان الأم من أطفالها الثلاثة تكشَّف وهم الغرب المتحضر، الذي يعامل الأم كموظفة والأب كرقم في ملف، ويلخص مقطع في الرواية خيبة الظن الكبيرة، بل الصدمة جاء فيه: «السويد… تبدو وطنا آمناً مثالياً: حقوق، حرية، رعاية. نظن أننا نجونا. أن أطفالنا أخيرا بأمان. لكننا لا نعلم أن الخطر لا يأتي دائما بصوت القذائف، أحيانا يلبس قناع العدالة، ويخطفهم باسمها».

تعددت ثيمات رواية «مدن الحليب والثلج»، فإضافة إلى الثيمتين المركزيتين: حرمان الوالدين من أطفالهم منَ السوسيال، والتحرش ونتائجه الكارثية، تناولت جليلة السيد في روايتها الاجتماعية مواضيع راهنة مثل، وباء كورونا، الذي حال دون رجوع لولوة من البحرين إلى السويد لفترة طويلة من الزمن وقد اختصرت الكاتبة آثاره بذكاء في قولها «صارت مجالس التعزية عبارات رثاء في مجموعات الواتس آب، وبات الموت إشعارا إلكترونيا باردا يصل ويختفي في زحام الرسائل»، كما تناولت أحداث سوريا حتى بعد سقوط النظام، وتعرضت لجماعات الإسلام السياسي، مختصرة تناولها في جمل مواربة لا تصدر أحكاما قيمية، كأنْ تعرضها بصيغة غير قطعية «أسمع من أصدقائي همسا عن عودة الخلافة، عن أمجاد يراد لها أن تبعث من رماد، يتحدثون بحماسة تشبه حماسة الأطفال حين يركضون وراء طائرة ورقية في يوم عاصف»، وهذا مما يحسب للروائية أن أبقت مسافة أمان بينها وبين نصها. وختمت جليلة السيد روايتها بنهاية شبه سعيدة حيث تجد لولوة بعض العزاء في وطنها البحرين، وفي عائلتها الكبيرة التي كفّرت عن أخطائها السابقة من منعها حقها في الميراث وتزويجها ضد إرادتها وهي مراهقة، فالأفضل أن يأتي الإنصاف متأخرا على ألا يأتي أبدا.
من الناحية الفنية كتبت جليلة روايتها بلغة شعرية عالية التوتر حادّة أحيانا، ولجأت إلى العامية السورية أو البحرينية في الحوارات، وحسنا فعلت، حيث أعطت نصها حيوية وحياة، كما كسرت إيقاع السرد مرتين، أولهما حين تركت لولوة ترتاح من وجعها، وعوضت بوحها برسالة من 13 صفحة لعصام يروي فيها سر التحاقه بالجماعات الإسلامية، وكذلك فعلت في آخر الرواية حين نقلت في ست صفحات مقاطع من مذكرات ابنتها جمان، تصف القاع الذي سقطت فيه من إدمان حبوب مهدئة ورعب يومي من وحش متحرش. وفي متن الرواية جمل لافتة تصلح للاقتباس مثل قولها «الإنسان لا يصقل بالكمال، بل بالتشظي»، أو «وصايا الأموات تنسى سريعا». كل هذا صنع من رواية «مدن الحليب والثلج» نصا آسرا بموضوعه الجديد ولغته المتقنة، وجعلنا نؤمن بفكرتين: أن الغرب ليس بذلك النقاء الذي يدعي (وما يجري في غزة قد نزع عنه ورقة التوت)، وأن الأمومة ـ كما ورد في الرواية «أن تضعي طفلك جهة القلب، وتضعي بقية العالم على وضع الطيران».

شاعرة وإعلامية من البحرين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب