
لنكفّ عن خداع أنفسنا

خليل النعيمي
نحن «الأمة الكبيرة» أصبحت تحكمنا الدول الصغيرة، أنتم تعرفون هذه «الحقيقة-المصيبة» مثلي. لا جدوى، إذن، من تعداد الأسماء، ولا من البحث عن المزايا، أو من نشر المساوئ. متى حدث ذلك؟ حدث بالتزامن مع انهيار الدول الإقليمية المركزية، إمّا بالمَحْو، أو بالتقسيم، أو بالتفتيت، أو بالتلاشي، أو بتساوي وجود «الدول التي ظلّتْ صامدة» مع عدمه. وكما هو متوقع، في مثل هذه الحال، انتفخت الدول الصغيرة فوراً، وتعمْلقتْ كثيراً، لتحل محل «دول الانهيار». فالطبيعة لا تحتمل الفراغ، خاصة، الفراغ السياسي والثقافي، كما حصل في «العالم الذي كان يسمّى عربياً».
انهيار تلك الدول التي كانت مركزية لا يعني تلاشي بُعدها السياسي، فحسب، وإنما الثقافي أصلاً، وبالخصوص السلوكيّ والمعرفي، في ما يتعلق بتصورها الخاص للوجود عند مواطنيها، أو عند مَنْ بقي منهم على «تلك الأرض التي صارت طاردة للحياة». تصوّرها التاريخي للعالم، أو ثقافتها العتيدة التي كانت سائدة منذ عقود، تلاشت سريعاً بطريقة مأساوية غير قابلة للاستيعاب. ابتلعها مَدّ الدول الصغيرة، التي أخذت تسيطر على كل شيء في العالم العربي، الذي أضحى «جثثاً دولية» بلا إمكانيات، وبلا منظور تاريخي جديد، يمكن الانتساب إليه، أو الدفاع عنه، أو حتى رفضه.
في هذه «الفجوة » الإنسانية المهلكة عربياً، والتي لا تبدو لنا مؤقتة، أو عابرة، أو قابلة للتجاهل، صرنا نبحث عن أشلاء الدول المركزية التي كانت تهيمن، من قبل، على الفضاء العربي مثل صقور كاسرة، ولا نرى اليوم سوى عصافير خافقة الأجنحة من الاضطراب والتردد والقلق والإحباط. وهو ما يُنبئ باندثار خطير للعالم العربي، إنْ لم يٌتَدارك الأمر بقوة، وبوعي عميق. العالم العربي يكون بدِوله مجتمعة أو لا يكون. «تلاليس الدولارات» ليست البديل عن حضور الدول المركزية، التي ورثت الحضارة الإنسانية السابقة، والتواطؤ مع الأعداء ليس حلاً تاريخياً. والتخاذل المريع ليس طريقة لمقاومة الإمّحاء من الوجود. والعيون التي تتصنّع العمى لن تحمينا من السقوط المدوّي في الهاوية. هذا ما تقوله لنا بوضوح أسطورة غزة المقاومِة، في مواجهة الاستعمار الصهيوني المتوحّش، تماماً، على شاكلة استعمار أوربا للقارة الهندية: «أبيدوهم. واسكنوا أراضيهم».
العَطالة العربية المعمّمة في مواجهة هذا الاستعمار البغيض، عَطالة الشعوب، قبل عطالة السلطات، أقولها بصراحة، تفضح التردّي العربي المؤسف، ولا تعطي عذْراً لأحد منا في حياديته. صحيح أن السلطات العربية تقمع كل شيء، لكن الشعوب لم تتجاسر حتى على قول ما لا تريده أن يكون. الشعوب لها سطوة هائلة عندما تريد. والقمع لن يتوصّل، أبداً، إلى منعها من قول ما تؤمن به، ولا من فعل ما تصرّ على فعله إذا شاءت. عندما تريد الشعوب أن تفعل شيئاً ستفعله. القمع ليس ممسحة للخطايا، ولا عذراً للأخطاء التاريخية التي لا يمكن قبولها. وهو ليس ذريعة للصمت والخذلان، وإن كان، في حد ذاته، كارثة إنسانية. وهو، القمع، ليس ممسَحة سحرية تمسح الشعوب بواسطتها قُصورها التاريخي، وترددها، وصمتها المخزي، واستسلامها المهين الذي لا يمكن احتماله تحت أي منظور. القمع مهما كانت شدته وقسوته، إذن، لا يبرر صمت الشعوب. ولا يكفي، وحده، لتعْليق المشْأمة على ظهر السلطة وحدها. ثمة قمع، وثمّة مقاومة. مثلما ثمة سلطة، وثمّة شعب. ولكن، من يفرض الصمت على الشعوب، إذن؟ وكيف يمكن تفسير ذلك؟ إنّي أسأل.
كاتب سوري