ثقافة وفنون

البُشرى مِن أحمد موسى…

البُشرى مِن أحمد موسى…

سهيل كيوان

كانوا يسمونه التفاؤل الثوري. ولكن التفاؤل يحتاج إلى مقوّمات مادّية تدعمه. ومن الأحاديث النبوية الشريفة «تفاءلوا بالخير تجدوه». يقال إنّه حديث حسَن.
ما كان يجري في الواقع لا يبعث إلا على التشاؤم، ورغم ذلك كانت الأمّة تتفاءل.
حتى بعد هزيمة عام 1967 النّكراء، وما أبدعه المبدعون في هجاء المرحلة ورموزها، بقي هناك أملٌ.
كلّما ظننّا أنّنا وصلنا القاع ولم يعد أمامنا سوى الصعود، فُتحت طبقة أخرى من القاع أشدُّ قتامة.
عندما حاصر جيش الاحتلال بيروت عام 1982 وأرغم المقاتلين الفلسطينيين على الخروج من بيروت، ارتُكبت بعدها مجزرة اعتبرت مجزرة العصر بتعبير محمود درويش «صبرا تقاطع شارعين على جسد/صبرا هويّة عصرنا حتى الأبد».
رغم ذلك فإن الأمل لم ينطفئ.
جاءت انتفاضة الحجارة التي انطلقت من مخيم جباليا في شمال غزّة عام 1987، لتحيي الأمل من جديد. بعدها مرّ الفلسطينيون والعرب عموماً وخصوصًا في العراق، ثم الرّبيع العربي الذي أُغرق بالدّم حتى يومنا. إلا أن الأمل لم يمُت.
المجازر الحاليّة في قطاع غزّة امتدادٌ لما سبقها من مجازر بمختلف أحجامها ومواقعها.
أعداد الضّحايا سوف تتضاعف مع احتلال مدينة غزّة من قبل عشرات آلاف الجنود، المسلحين بأحدث الأسلحة، سيدمّرون كلّ ما في طريقهم، ليس بطولة، بل جرائم إبادة وخوفاً.
لقد بات لدى مئات آلاف الغزّيين قناعة بأنّ النزوح لا يُنجي من الموت، فلا يوجد مكان آمن كما يدّعي الاحتلال، إذاً ما فائدة النُّزوح ما دامت النتيجة واحدة! وهدف الاحتلال واضح ومُعلن! الذين نزحوا عدّة مرات، باتوا يدركون أنّ الهدف هو القتل لإرغامهم على الهجرة. مهما اختلفت الأمكنة والتّسميات والتطمينات التي باتت مُرعبة.
كنا نتحدّث عن إبادة الهنود الحُمر التي استمرت أربعة قرون كحدث تاريخي لن يتكرّر، وحصدت ما يقارب الخمسين مليوناً بِنَشر الأمراض المُعدية بينهم من غير أمصال تطعيم مثل الجدري والأنفلونزا والحصبة، ثم قتلهم خلال عمليات طردهم من أراضيهم وقراهم.
ما يفعله المستوطنون اليوم في الضّفة الغربية وفي قطاع غزة، هو نموذجٌ مصغّرٌ لما فعله أجدادهم الأوروبيون في القرون الماضية.
بسذاجة ظنّنا أنّ البشرية ارتقت، وما عادت تتقبّل رؤية شعبٍ يباد، ولكنّها أوهام، التصاعد القِيَمي لدى البشر لا يرتقي في تصاعد ثابت. فهو قد يكون محمّلاً بقيم إنسانية ونبيلة في العصور القديمة بما هو أفضل وأرقى مما يجري في هذه الأيام في قطاع غزّة. لمن لا يصدّق بإمكانه مراجعة شرائع حمورابي، وقوانين مصر القديمة في الحرب، وفي الحضارة الهندية القديمة في الفيدا، ولدى العرب قبل الإسلام، ثم ما جاء به رسول العرب الكريم وخلفاؤه الراشدون بوضوح في هذا الموضوع.
الدّولة الأعظم في العالم، وربما في التاريخ البشري، تُلقي بأضخم وأحدث أسلحتها وقدراتها الماديّة إضافة إلى ما يملكه أقوى خامس جيوش العالم، في مواجهة فصيل مسلّح لا يملك سوى صنع يديه من عتاد يُعتبر فقيراً جداً مقارنة بما يملكه غيره من جيوش. هذا في منطقة محاصرة مساحتها كلها لا تساوي مساحة مدينة أمريكية متوسّطة، أو مساحة مثل القُدس وضواحيها.
على قائمة الاستهداف يُقتل الصَّحافيون، حتى الآن اغتيل حوالي 250 صحافياً. الاحتلال يُمعن في قتل الصورة والصّوت، يحاول محو الجريمة بجريمة، الإصرار على قتل الصحافيين لتأكيد شرعية قتلهم، هذا فنٌ في علم الجرائم، العودة على الجريمة نفسها للإيهام بأنّك محقٌ في جريمتك الأولى. مثل من يطعن الضحية، وعندما يتأكد أنّها قُتلت يواصل طعنها عشرات المرّات.
تجري الإبادة المعلنة بدعم المناضل لنيل نوبل للسّلام حتى أصبح شريكاً مباشراً في الدّم، وذلك بإعلانه الشّهير والسّخيف عن الريفيرا، والأسخف تصريحه بأنّه يريد «نقل الناس إلى مكان أفضل»! ترامب ضغط على دول عظمى لوقف الحرب كما حصل بين الهند وباكستان، وأوقف الحرب بين إيران وإسرائيل لأسباب عديدة، ولكنّه في قطاع غزة يمنح المزيد من الدّعم، نفاقاً للمجرم وللوبي الصّهيوني، ويمنع محمود عباس وحاشيته من دخول الولايات المتحدة، كحبة كرَز على الكعكة هديّة للمجرم. محمود عباس الذي يدين المقاومة ويدعوها إلى الاستسلام وتسليم سلاحها.
لا يفهم الأجنبي المُحتل منطق من يتمسّكون بحطام المباني وبقايا الطرق والأسواق والمساجد والمؤسّسات الأخرى.
أمرٌ غيرُ مفهوم لدى من لا يرون في الوطن سوى مستوى حياة وراتبٍ منتفخٍ في آخر الشهر أو الأسبوع، بيت واسع وسيارة، هنالك ألغازٌ وليس لغزاً واحداً عصيِّة على فهم المُحتلّين.
ما الذي يجعل سكان مخيّم باتت الحياة فيه شبه معدومة، يتمسّكون به لدرجة المقامرة بحياتهم!
عوامل عديدة منها ما هو ديني وروحاني، يتعلّق بتاريخ قطاع غزّة منذ الفتح الإسلامي الأوّل، فأكثرهم يعتبرون أن مجرّد بقائهم في هذه البقعة من فلسطين، شرفٌ عظيم.
قدسية الأرض تتضاعف مع الأعداد الهائلة من الشُّهداء، وخيانة دماء الشّهداء أقسى أشكال الخيانة.
لم لا يتمسّك الغزاوي بوطنه! وهو الذي إذا أراد دخول مصر يُذلُّ ويُهان على معبرها.
هل الآية على معبر رفح «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين». تشمل الفلسطينيين، أم أنّها تخصّ سلالات معيّنة من البشر دونهم!
قبل أيام، أخبرني صديق غزاوي مقيم في رام الله منذ السّابع من أكتوبر 2023، كان يعملُ في الداخل مثل آلاف الغزّيين قبل الحرب، وبعد اشتعال الحرب لم يعد قادراً على العودة إلى القطاع. سافَرت زوجته مع حفيدٍ لهما إلى إسطنبول للعلاج منذُ بداية الحرب.
الآن بعد ثلاثة وعشرين شهراً، أجرى جميع المعاملات لدى السّلطة في رام الله كي يسافر إلى إسطنبول. على معبر الشّيخ حسين في الجانب الإسرائيلي بعد تحقيق وتأخير ساعات، سمحوا له بالانتقال إلى الجانب الأردني، وفي الجانب الأردني بعد ساعات انتظار وتحقيق، أعادوه إلى الجانب الإسرائيلي، وقالوا له: «سنخبرك لاحقاً متى تستطيع دخول المملكة الهاشمية! و»عيش يا كديش تيطلع الحشيش».
يدفن الفلسطينيون شهداءهم بسرعة، ليس لدفن الجثث فقط قبل تحلّلِها، بل لدفن جانب من الألم الذي يسبِّبه مشهد الجثث الممزّقة والمتفحّمة!
هل قتلوا الملثّم؟ سؤال تردّد كثيراً.
نتنياهو ووزير حربه ورئيس الشاباك أكدوا اغتياله، حسناً وماذا إذا اغتيل بالفعل؟ ألم تسبقه قوافل من عشرات آلاف الشُّهداء من قادة وكوادر من مختلف فصائل وشرائح الشّعب الفلسطيني، ومن الأمة كلّها!
أحمد موسى أحد رموز الانهيار الأخلاقي المعاصر للنّظام المصري، شمِت بمقتل أبو عبيدة. كتب على صفحته: «الملثّم أبو عبيدة لا نفيٌ ولا تأكيد، هل قتل أم لا؟ حَدّ يطلّع بيان، أو كلّموا المهرّج فايز الدويري يطلع بيان يشرح ويحلّل».
الحقيقة أنّني عندما أرى ما يكتب وأسمع ما تقوله أبواق نظام السّيسي من أمثال أحمد موسى -وهم قلة بين الإعلاميين المصريين- أشعرُ ببشرى اقتراب الوصول إلى القاع، الذي لا بدّ من وصوله لبدء الصُّعود من جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب