
هل شكّلت البيولوجيا تاريخ العالم؟

حسام الدين محمد
تساءل أحمد زهاء الدين عبيدات، في تعليق قصير له على «فيسبوك» إن كان نكاح الأقارب أضر بجودة نسل وثقافة العرب، جيلا بعد جيل بعد جيل؟ أشار عبيدات، في سياق سؤاله، إلى ما في ذلك من تجاهل لسنّة وردت في التراث الإسلامي «يصرّ العرف على إنكارها».
واستشهد عبيدات، وهو أستاذ للغة والثقافة العربية الإسلامية مقيم في أمريكا، بمقطع من كتاب «المغني» لابن قدامة المقدسي يقول: «ويختار الأجنبية، فإن ولدها أنجب، ولهذا يقال: اغتربوا لا تضووا يعني: انكحوا الغرائب كي لا تضعف أولادهم».
تصادى السؤال البسيط مع اهتمام قديم لديّ ببحث علاقة علم الأحياء بالسياسة ووقعت، اثناء دراستي لهذا الموضوع على كتاب للباحث البريطاني لويس دارتنيل بعنوان شديد الطموح: (أن تكون إنسانا: كيف شكّلت البيولوجيا التاريخ العالمي؟). يبحث دارتنيل في كتابه كيف تقاطعت منظومتنا البيولوجية مع تاريخ البشرية، ويبحث آثار ذلك في مصائر الإمبراطوريات والسلالات. يضيء ما حصل لعائلة هابسبورغ على فكرة عبيدات بشكل مذهل. اعتمدت هذه الأسرة استراتيجية توسّع عبر الزيجات نقلتها من حيز متواضع في سويسرا، لتصبح العائلة الأكبر تأثيرا في التاريخ الأوروبي. تزامن صعود الأسرة مع حقبة الاستكشاف والكولونيالية والاستغلال الجائر للشعوب الأخرى وثرواتها، فتمكنت من السيطرة على المناطق التي كانت إسبانيا والبرتغال قد هيمنتا عليها في أمريكا اللاتينية وساحل افريقيا والهند وجزر التوابل (إندونيسيا) والفلبين. انضمت إنكلترا إلى هذه الأملاك حين تزوج فيليب الثاني الاسباني من الملكة ماري في 1554 وبذلك تمكنت هذه العائلة الوحيدة أن توسع مجال هيمنتها لتدور حول العالم، وفي مطلع القرن السادس عشر صار الملك تشارلز الخامس أول حاكم في التاريخ لا تغرب الشمس عن أملاكه، وذلك قبل وقت طويل جدا من الإمبراطورية.
مرض الامبراطور الروسي من أسرار الدولة
كان لهذه الاستراتيجية للزواج رد فعل بيولوجي سلبي كبير، فصار تزايد السلطات يقابله ضعف متعاظم للجينات، وبتجميع هذه الأسرة الحاكمة منظومة قوة هائلة طورت إمكانيات سقوطها بيولوجيا. وهكذا انهارت الأسرة تحت وطأة استراتيجيتها الناجحة للسيطرة على أوروبا والعالم، وأدت وفاة تشارلز الثاني إلى بدء حرب وراثة التاج الإسباني ضمن القوى الأوروبية لاحتلال ما أمكن من مناطق الإمبراطورية المتهاوية. غير أن أحد أكثر الأمثلة لهذه الأطروحة إثارة، هو مثال أن طفرة جينية واحدة حملتها فيكتوريا ملكة بريطانيا، كانت لها عواقب سياسية امتدت عبر أوروبا وساهمت في انهيار الإمبراطورية الروسية وأدت في نهاية المطاف إلى الثورة الروسية عام 1917.
كانت الملكة فيكتوريا حاملة للهيموفيليا، وهي اضطراب وراثي نادر ومهدد للحياة، يمنع الدم من التجلط بشكل صحيح. عادة ما تكون حاملات الهيموفيليا من النساء، بينما الذكور الذين يرثون الجين المعيب يصابون عادة بالمرض. من دون أن تدرك، نقلت فيكتوريا الجين المتحور للهيموفيليا B (وهو شكل أقل شيوعا) إلى بعض أحفادها. انتقلت هذه الطفرة لديها إلى عدة عائلات ملكية من خلال الزواج، بما في ذلك إسبانيا وألمانيا، ولكن الأثر الأكبر لانتقال هذه الطفرة كان في روسيا. تزوجت حفيدة فيكتوريا، الأميرة ألكسندرا، من القيصر نيكولاس الثاني ملك روسيا، وأصبحت الإمبراطورة ألكسندرا فيودوروفنا، ورث أحد أطفالهما، أليكسي نيكولايفيتش، وريث العرش، جين الهيموفيليا وأصيب بالمرض. كان مرض أليكسي سرا من أسرار الدولة، حيث كان يهدد الصورة العامة للملكية القوية، التي لا يمكن المساس بها، وساهمت صحته الهشة في زعزعة استقرار عائلة القيصر بشكل عميق، وأدت إلى زيادة الاعتماد العاطفي من قبل ألكسندرا على غريغوري راسبوتين، وهو معالج صوفي ادعى أنه يساعد في تخفيف معاناة أليكسي.
من راسبوتين إلى لينين!
ساهمت تلك الطفرة الجينية العشوائية، كما يقول دارتنيل، في سلسلة أحداث أثرت بشكل مباشر على مسار التاريخ الروسي والعالمي، فقد ازداد تأثير راسبوتين على ألكسندرا بسبب حالة أليكسي، وبدورها، ضغطت ألكسندرا على نيكولاس الثاني لكي يثق في راسبوتين ويأخذ بنصيحته، حتى في شؤون الدولة، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى. مع تولي نيكولاس قيادة الجيش، كان يُنظر إلى ألكسندرا وراسبوتين على أنهما يديران الحكومة فعليا، مع انتشار تصورات عن عدم الكفاءة والفساد. اشتد استياء الجمهور من راسبوتين والنظام القيصري، وحين جرى اغتيال راسبوتين في عام 1916 كان الوقت قد تأخر جدا لوقف الانهيار. أدى فقدان الشرعية هذا إلى تفاقم الأحداث مع إخفاقات الحرب والانهيار الاقتصادي إلى ثورة فبراير/شباط 1917، التي أجبرت نيكولاس الثاني على التنازل عن العرش وأنهت أكثر من 300 عام من حكم آل رومانوف.
وفقا لتحليل الكاتب، لم تكن الثورة الروسية نتيجة لعوامل أيديولوجية واقتصادية فحسب، بل كان لها أيضا دافع بيولوجي، وتحديدا طفرة في جين التخثر نشأت في سلالة الملكة فيكتوريا. أضعفت هذه الغرابة الجينية، التي انتقلت عبر الزيجات بين الأسر الحاكمة المتزاوجة في أوروبا، الاستقرار السياسي للإمبراطورية الروسية من الداخل، ما يوضح كيف يمكن للبيولوجيا الفردية أن تؤدي إلى عواقب تاريخية كبرى.
الأفيون مقابل الشاي!
جاء أحد تأثيرات البيولوجيا على التاريخ من أربعة مكونات، يتم استخدامها بشكل واسع في العالم للتأثير على عقولنا، عبر تحفيزها أو تخديرها، أو تهدئتها أو تقوية قدراتها على رؤية العالم. هذه المكونات هي الكحول، النيكوتين من التبغ، والكافيين من الشاي والقهوة، والمورفين ومخدرات أخرى. إن تناول هذه المكوّنات هو عامل يعدّل ويغير وظيفة الدماغ ويحفز مركز المكافآت فيه، يؤثر هذا المركز في بقائنا وتناسلنا وأكلنا وعطشنا وممارستنا للجنس. أحد الأمثلة الكبرى على تأثير الطلب على هذه المكونات، هو ما حصل في القرن الثامن عشر، حين حاولت الإمبراطورية البريطانية سد العجز المالي الذي يخلقه الطلب على الشاي بتهريب الأفيون إلى الصين، الذي استخدم كسلاح وكأداة سياسية من قبل امبراطورية لإخضاع أخرى.
أدت خسارة الصين الحرب الناشبة إلى توقيعها اتفاقية نانكينغ المذلة، وتسليمها هونغ كونغ، وفتح موانئها لبريطانيا التي لم تكتف بذلك فأعلنت حرب الأفيون الثانية لجعل استخدام المخدّر أمرا مشروعا، وعند احتلال اليابان للصين عام 1837 كان 10% تقريبا من سكان الصين قد أصبحوا مدمنين!
يقدّم الكتاب أمثلة أخرى على الأثر الهائل للبيولوجيا في التاريخ، لنكتشف أن مادة كيميائية تنتج مكونا يدعى أسكوربيت أدت بشكل غير مباشر إلى صعود المافيا الإيطالية، وكيف أدى إنشاء مستعمرة أسكتلندية في بنما إلى انتشار أمراض استوائية لدى المستوطنين وأنهى مقامرة اسكتلندا الاستعمارية.
بالعودة إلى الملاحظة التي نقلناها عن عبيدات، أجد أننا في حاجة ماسة إلى بحث تأثير مسائل تأثير البيولوجيا على العالم العربي، وهو أمر سيسمح بإمكانية قراءات تاريخية واجتماعية وسياسية فريدة من نوعها، وطازجة في قدرتها على فهم الواقع من جوانب عديدة، لم يتم التفكير بها بعد.
كاتب من أسرة «القدس العربي»