سامر حنّا: سيّداتي سادتي… إنّه زمن الـ «انفلونسرز»

سامر حنّا: سيّداتي سادتي… إنّه زمن الـ «انفلونسرز»
يُعيد الكاتب والمخرج سامر حنّا قراءة البرامج الصباحية الجماهيرية في مسرحيته «عالهوى سوا مع كاتيا وكريم». عرض موسيقي ساخر يوجّه نقداً لاذعاً لا يخلو من الضحك، ولكنه يترك أثراً مؤلماً

تعدّ مسرحية «عالهوى سوا مع كاتيا وكريم» (كتابة وإخراج سامر حنّا) التي تعرض على خشبة «المونو»، تجربةً متكاملة، ليس فقط من حيث المضمون، بل من حيث الشكل، والبناء، والأداء، والخيارات الفنية التي تجعلها حالة خاصةً في المشهد المسرحي اللبناني اليوم.
كسر الجدار الرابع ببراعة
منذ اللحظة الأولى، يُفاجَأ المشاهد بأنه لم يدخل إلى مسرح تقليدي، بل إلى استوديو برنامج تلفزيوني صباحي. يتحدث الممثلون إلينا كأننا جمهورهم الحقيقي، ويُطلب منا التصفيق والضحك والمشاركة عبر مدير المسرح (جاد حرب) الذي يرفع اللافتات ويوجّهُ التفاعل.
هذا «التكنيك» في كسرِ الجدار الرابع، يُنفَّذ بطريقة محبوكة وغير استعراضية، فينقلنا من موقع المتفرّج إلى موقع «الجزء من اللعبة». يكشف لنا كيف أصبح تفاعل الجمهور في الإعلام مجرّد فعل مُدبَّر ومفروض، وليس عفويّاً أو طبيعياً. هذا التحول مَشحونٌ بنقدٍ صريح لعالم البرامج التلفزيونية السطحية، حيث كل شيء محسوب ومصطنع ومُزيّف… حتى الضحك والتصفيق.
بين الإعلام المزيّف والواقع المنهار: صراع كاتيا وكريم
تدور المسرحية حول ثنائية محورية خادعة: كاتيا وكريم (جوانا توبيا وشربل أبي نادر) الثنائي المثالي الشهير أمام الكاميرا، والمُنهار خلفَها. يستثمر العمل ببراعةٍ هذه الازدواجية، مُوجّهاً نقداً لاذعاً إلى الحقيقة المُزيفة التي تُعرضُ يومياً على الشاشات.
أدى الممثلان هذا التناقض ببراعة استثنائية، فاستطاعا أن يُجسّدا شخصية «الإعلامي السطحي»، المتفاعل المصطنع، الذي يقول ما يُطلب منه، ويخدم «الترند» و«الريت» بأي ثمن. وفي الوقت نفسه، ينقلُ صراعاً داخلياً عميقاً بين حلمهِ القديم بالإعلام الهادف، والواقع الذي سجنه في التسلية الفارغة.
نلمس هذا الصراع في كل نظرة، وكل صمت، وكل تصعيد درامي، وهذا ما يجعل أداءهما متكاملاً بين الكوميديا والدراما، والسخرية والحزن، والتهريج والصدق. يُشهَد لجوانا وشربل قدرتهما المسرحيّة وموهبتهما الحقيقية على الغوص في عمق الشخصية وعدم الإفلات منها.
السطحية في أقوى تجلياتها
عندما تدخل شخصية Rachalicious (ماريا بشارة) إلى العرض، وهي «انفلونسر» سطحية تُدخلها إدارة البرنامج لرفع نسب المشاهدة، نشعر مباشرةً بصدمة إضافية تمثّل زمن السوشال ميديا حيث الشهرة لا تتطلب مضموناً. هدفها الوحيد هو الظهور وجمع اللايكات، من دون أي فكر أو موقف. ورغم أنّ الشخصية أحادية البُعد درامياً، إلا أن أداء الممثلة كان قوياً، واستطاعت أن تخلق منها كاريكاتوراً حقيقياً يجعلنا نضحك بمرارة، لأننا ندرك أنّ هذه الشخصيات الافتراضية المُتفاقمة، باتت جزءاً من واقعنا اليومي.
الضيوف والشاشة… والمسرح داخل المسرح
تكمن إحدى أذكى تقنيات العرض في استخدام الشاشة المسرحية لنقل مقابلات مباشرة مع ضيوف متنوّعين: فؤاد يمين (في دور الكاهن الذي ترك الدير ليصنع الشمع ويَعِظَ الناس بخطبٍ مصطنعة أشبه بقطعانِ مُدربي الحياة الذين ملأوا المواقع وعظاً وتخريفاً) وزينة دكّاش (بدور المرأة الهستيريّة التي تعلّم الناس كيفية إزالة البقع عن الثياب) وطلال الجردي (أستاذ الجغرافيا الجرديّ المتقاعد الذي ينقّب في الأحراشِ والمستنقعات) بالإضافة إلى GStrings الثنائي المتخاصم المنفصم حضوراً وموسيقى.
استحضرت الأغاني نوستالجيا «ستار أكاديمي»
كل شخصية هي محاكاة ساخرة حقيقية لنماذج الضيوف الذين نراهم يومياً على الشاشات، محشوة بحكايات تافهة لا تهمّ أحداً، ولكنها تملأ وقت الهواء. الأهمّ من ذلك أنّ الممثلين الضيوف (من نجوم الصف الأول في لبنان) لم يُستخدموا فقط لتلميع العمل، بل كانوا جزءاً أصيلاً من النسيج الدرامي، أدارهم سامر حنّا داخل الشاشة وخارجها في سياقٍ مُناسب وتوليفة مُحكَمة من دون أي خلل في الإيقاع.
أمّا السينوغرافيا، فقد امتازت بالبساطة والتّوظيف المُباشر، تحتفي بالممثل والنص من دون أن تتذاكى على المشاهد باستعراضات بصريّة زائدة.
الموسيقى والرقص: بين النكتة والنوستالجيا
كتبت جوانا توبيا أغنيات العرض، واستطاعت أن تعيدنا إلى روحيَّةِ موسيقى البرامج والإعلانات التلفزيونية والإذاعية الخفيفة، حيث كل أغنية تخدم المشهد ولا تقطعها. جاءت الرقصات (إعداد جاد حرب) متناغمة وذكية، وفي كثير من الأحيان، استحضرت نوستالجيا «ستار أكاديمي»، كما لو أننا نُحاكم العصر الذي تأثرنا به جميعاً. فالموسيقى والرقص هنا ليسا مجرد أدوات تسلية، بل أدوات سخرية، ونقد، واستعادة لذاكرة جماعية.
مخرج يعرف أدواته
سامر حنّا، مخرج العمل، هو من الأسماء التي لا بد من التوقف عندها طويلاً. تابعناه في أكثر من عمل، ونلاحظ تطوّراً مستمراً وواضحاً من عمل إلى آخر. يمتلك حسّاً عالياً بالإيقاع المسرحي، وقدرة على ضبط السردية، وإدارة الممثلين واختيار «الكاست» المناسب تماماً. في هذا العمل تحديداً، أظهر نضوجاً فنياً قوياً، ولكنه ما يزال يشتغل ضمن إطارٍ معروف ومُجَرَّب.
ورغم أن هذا النوع من المسرح (الفودفيل والميوزيكال الشعبي) من أصعب الأنواع تجديداً، إلا أننا ننتظر من كاتبٍ ومُخرجٍ صاعد، بهذه الموهبة، أن يبدأ بالبحث عن لغة جديدة في الموسيقى، والنصّ، والشكل، وفي الجرأة على كسر العلبة المُغلقة لهذا القالب المسرحي.
المسرح لا يزال حيّاً بشرط أن يقول شيئاً
«عالهوى سوا مع كاتيا وكريم» ليست مجرد تجربة مسرحية مُمتعة، بل هي محاكمة خفية للإعلام، والسطحية، والرياء، والضحك المُعلّب. إنّها مرآة مقلوبة، تجعلنا نضحك، ثم نفيق فجأة لندرك أننا نضحك على أنفسنا.
في زمن اختلطت فيه الجدّية بالهزل، والصدق بالمحتوى، والكواليس بالشاشة، يأتي هذا العمل ليقول إنّ المسرح، حين يكون صادقاً، يبقى قادراً على أن يحرّك، وأن يضحك، وأن يوجع.
* «عالهوى سوا مع كاتيا وكريم»: حتى نهاية أيلول (سبتمبر) ـ مسرح «المونو» (الأشرفية) ـ للاستعلام: 71812780