علي بدر: بيروت مرآة المشرق بكل تناقضاته

علي بدر: بيروت مرآة المشرق بكل تناقضاته
منذ منتصف التسعينيات حين قدّم روايته الأولى «بابا سارتر»، ظلّ الروائي العراقي علي بدر (بغداد ـــ 1979) منشغلاً بما يمكن تسميته بتفكيك المشرق.

منذ منتصف التسعينيات حين قدّم روايته الأولى «بابا سارتر»، ظلّ الروائي العراقي علي بدر (بغداد ـــ 1979) منشغلاً بما يمكن تسميته بتفكيك المشرق. انهمك دوماً في البحث عن أصل الأشياء، عن الأدلة، وعن محطاته المأساوية التي تصنع مصائر الإنسان فيه، وتشريح العلاقة الملتبسة بين الثقافة والسلطة والحرب والهوية. رواياته اللاحقة، من «مصابيح أورشليم» و «الركض وراء الذئاب» إلى «الكذابون يحصلون على كل شيء»، و«حارس التبغ» لم تُقرأ فقط كسرديات متخيلة، بل كوثائق أدبية تتقاطع فيها الفلسفة مع التراجيديا والسخرية مع السياسة، وحازت تقديراً نقدياً وجوائز عربية وترجمات إلى لغات عدّة. قبل أيام، نشر آخر أعماله بعنوان «المستشرقة الألمانية والعطار النيسابوري» (دار المدى). ومن مكان إقامته في بروكسل، يواصل بدر مشروعه الروائي والبحثي، إذ يكتب عملاً جديداً لكن هذه المرة عن الشام، إلى جانب انشغاله في الصحافة والترجمة وإدارته للنشر في «دار المدى». أثناء زيارته الأخيرة لبيروت، التقيناه في مقهى «ة» في الحمرا، قبل أن نستكمل معه الحوار من بُعد. حديثٌ امتدّ إلى الرواية والسياسة والفكر وسقوط «البعث» في بغداد ودمشق، مروراً بسوريا بوصفها مختبراً لفشل المشرق، وصولاً إلى غزة ومعنى الموقف الثقافي، وبيروت ولبنان وما يشبه اللحظة المعلّقة بين الانهيار وإمكان القيامة
■ نمسك بالكاتب علي بدر متلبساً في نهاية رحلته بين دول عربية ودول تجاورها، يبدو أنه يحمل عملاً روائياً جديداً تدور أحداثه بين سوريا ولبنان؟
– نعم، أعمل على رواية جديدة بعنوان «كحول وحنين». لكنها ليست سرداً تقليدياً، بل محاولة لقراءة الهوامش السورية التي أهملها التاريخ الرسمي، وخصوصاً جيل الحرب الذي كان طفلاً مع بداية الثورة. هي أيضاً قصة حب، لكن ليست بالمعنى العاطفي وحده، بل مشروع لتشريح جسد المشرق في أكثر لحظاته هشاشةً: المشرق المتأرجح بين الحرب والذاكرة، حيث يتحوّل الحب إلى مطاردة والحقيقة إلى جثة غامضة.
ربما تسأليني لماذا هذه الرواية؟ لأن الأحداث وضعتني أمام السؤال الوجودي الذي طرحه دوستويفسكي منذ قرنين: كيف يظل الإنسان إنساناً في لحظة السقوط؟ دمشق وبيروت ليستا فضاءين فقط، بل مرآتان متقابلتان: الأولى تعكس الخوف والانهيار، والثانية الحنين والبحث عن معنى. وبينهما يقف الكاتب شاهداً لا راوياً، شاهداً يكتب ما يتساقط من المعنى، محاولاً إعادة الاعتبار للذاكرة الفردية في مواجهة التاريخ المدون، وفهم كيف ينجو الهامش من سحق المركز، وكيف تصبح اللغة أداة بقاء حين تنهار كل الأدوات الأخرى.
■ تشكل سوريا لك مسرحاً مهماً لأعمالك الروائية، واليوم لكتاباتك اليومية على فايسبوك، ما سبب هذا الاهتمام الشره تجاه سوريا والوضع السياسي الجديد فيها؟
– ببساطة لأن سوريا بالنسبة إلي ليست مكاناً عابراً، بل هي المسرح الذي تتجسد فيه معضلة المشرق في أقسى صورها. هي مختبر الفشل السياسي، حيث انهارت الدولة الحديثة كما وصفها ماكس فيبر: جهاز احتكار العنف، لكن هذا الاحتكار تفتّت إلى ميليشيات. وهي أيضاً مختبر الطائفة، حيث تحولت الجماعة إلى قفص لا إلى ملاذ.
اهتمامي بسوريا ليس اهتماماً بالسياسة فقط، بل لأنني رأيت فيها إعادة إنتاج لكارثة المشرق في بداية القرن العشرين على نحو أكثر فجاجة، وكأنها تحقق ما وصفه ابن خلدون بالدورة التاريخية للعصبية: انهيار السلطان حين تفقد العصبية قوتها. سوريا هي الجرح الذي إذا لم نقرأه بعمق، فلن نفهم المشرق كله.
■ متى كانت آخر مرة زرت فيها سوريا، هل يمكن أن تصف أيامك الأخيرة فيها؟
– كانت آخر زيارة لي قبل أيام من سقوط النظام، وكأنني وقفت على العتبة التي تفصل بين زمنين. المفارقة تثير عندي الحساسية التاريخية: أن تكون شاهداً على لحظة تتفتت فيها المدينة مثل مرآة انكسرت دفعة واحدة. مشيت في شوارع دمشق وكأنني أشيّع مدينة كاملة، مدينة تعرف أنها تسير إلى مصيرها لكنها لا تجرؤ على الاعتراف.
كأن اللغة نفسها دخلت في الحظر. رأيت ما سمّاه والتر بنيامين «الزمن المتشقق»: تلك اللحظة التي ينفصل فيها الماضي عن المستقبل، فلا يعود الحاضر سوى انتظار لشيء ما. لم يكن المشهد عاطفياً، بل كان صورة عن الجغرافيا السياسية الممزّقة للمشرق. دمشق لم تكن مدينة معزولة، بل عقدة صراع دولي وساحة اختبار لمعادلات القوة الإقليمية. في تلك اللحظة، بدت دمشق تجسيداً لفكرة هيدغر: «أن نسكن العالم ونحن نعرف أنه ينهار»، أي أن نحمل المدينة كظلها، لا كجسدها.
يواجه المشرق ضغطاً متزايداً من نموذج يقوم على المال والسلطة الدينية والأحادية الثقافية
■ علي بدر شهد سقوط «البعث» مرتين، مرة في وطنه الأصلي العراق، ومرة ثانية في دمشق، ما المشاهد المشتركة بين السقوطين بالنسبة إلى الكاتب والإنسان؟
– نعم، بالفعل رأيت سقوط «البعث » مرتين: في بغداد وفي دمشق. لكن المفارقة أنّ السقوط لم يكن حدثاً سياسياً فحقط، بل كان انكشافاً فلسفياً لفراغ الدولة الحديثة في المشرق.
في بغداد جاء السقوط سريعاً، كضربة خارجية اخترقت البنية كلها دفعةً واحدة كأنّ الزمن نفسه قطع فجأة، فلم نملك حتى فرصة الوعي بما حدث. أما في دمشق فجاء السقوط بطيئاً، متآكلاً، كما وصف أنطونيو غرامشي: «القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي الفراغ يظهر مسرح الوحوش ».
هذا الفراغ لم يكن سياسياً فقط، بل أنطولوجياً: انكشاف الإنسان أمام هشاشة المعنى نفسه. لكن ما اكتشفته حقاً أنّ سقوط «البعث » ليس حدثاً محلياً، بل علامة على مأزق ثقافي أوسع: فشل مشروع الدولة _ الأمة في المشرق العربي.
سقوط بغداد ودمشق كان إعلاناً أنّ المشرق لم ينجح في إنتاج عقد اجتماعي حديث، بل ظلّ يراوح بين شعارات أيديولوجية مغلقة وبين قمع أمني عارٍ. ومن هنا تحول السقوط إلى انكشاف أخلاقي، أي إلى دولة السجون والتعذيب والقتل غير المبرر.
■ بعد سنوات من حمل مشروع الأمة العراقية في أعمالك نجدك اليوم تبتعد عنها أو توسعها لتشمل لبنان وسوريا، ما السبب؟
نعم أتفق معك. في البداية كنت مشغولاً بمشروع الأمة العراقية باعتباره محاولةً لتأسيس هوية وطنية بعد السقوط. لكن سرعان ما أدركت أن العراق لا يفهم إلا في فضائه الطبيعي: المشرق. فهذا الفضاء ليس تجمعاً جغرافياً فقط، بل هو وحدة تاريخية–فكرية صاغت مفاهيم العروبة والنهضة والدولة الحديثة على قاعدة التعددية.
شكّل عبر تاريخه ما يمكن وصفه بالكتلة التاريخية. إيماني بهذا المشرق يقابله خوفي عليه، لأنه يواجه ضغطاً متزايداً من نموذج وافد من الجوار. نموذج يقوم على المال والسلطة الدينية والأحادية الثقافية، ويقوّض تقاليد التفاوض والمساومة التي صاغت روح المنطقة. هنا تتجلى المفارقة الجيوسياسية: المشرق، رغم ضعفه السياسي وتآكله الداخلي، يبقى خزّان الفكرة التاريخية العربية الحديثة، بينما الجوار رغم ثروته وصعوده، يبقى عاجزاً عن إنتاج سردية سوى سردية الثروة.
■ ما أهم المواضيع والقضايا التي تعتقد بأنها تحتاج إلى إعادة قراءة من الجميع في البلدين المجاورين، خصوصاً مع بروز مفاهيم جديدة بحاجة إلى النظر فيها بعمق، ودراستهما من الطائفية إلى مفهوم الدولة إلى اليأس؟
– سؤالك يجعلني أفكر فعلاً بالمشرق، فهو اليوم يحتاج إلى قراءة جديدة لذاته. قراءة تتجاوز الشعارات الكبرى عن الأمة أو الدولة الحديدية، وتنزل إلى تفاصيل الحياة اليومية التي تختزن الحقيقة الأعمق. فالتجربة التاريخية أثبتت أنّ الطائفية لم تكن قدراً دينياً، بل كانت على الدوام أداةً من أدوات السلطة، هندسة للهيمنة والانقسام يعاد إنتاجها مع كل أزمة.
والدولة التي قامت على ميراث «سايكس–بيكو» لم تعد تصلح كصنم مركزي يحتكر الولاء، بل يجب أن تبتكر من جديد كعقد اجتماعي قادر على حماية التعددية بدلاً من سحقها. أما اليأس الذي يخيّم على الناس، فهو ليس مجرد شعور عابر، بل وعي عبثي كما وصفه ألبير كامو. وبدلاً من أن يكون نهاية، يمكن أن يتحول إلى بداية، إلى إمكان لإبداع سياسي جديد. بهذا المعنى، فإن إعادة قراءة المشرق ليست عملاً تاريخياً فقط، بل هي ضرورة وجودية كي نتمكن من البقاء والاستمرار.
■ أنت من الكتاب والمثقفين الأكثر اشتباكاً مع محيطهم العربي وقضاياه، ما سبب موقفك المعارض بشدة للحركات الإسلامية، خصوصاً تلك التي وصلت إلى الحكم في سوريا بعد ثورة استمرت 14 عاماً؟
– أمر طبيعي جداً. إن موقفي من الحركات الإسلامية في سوريا ينبع من قراءة للتاريخ أكثر مما ينبع من موقف سياسي مباشر. فالمشرق، عبر قرونه الطويلة، شُيّد على فكرة التنوع الخلاق. لقد أسّسته الثورة الروحية المسيحية التي أطلقت الفلسفة والمدارس والآداب، وأسسته أيضاً الحركات الباطنية التي حملت فكرة الباطن والمعنى المخفي، وأسّسه التصوف السنّي الذي جعل التجربة الدينية تجربةً إنسانية عابرة للحدود.
بهذا التراكم، تشكّل المشرق كفضاء حضاري قائم على الحوار والتعدد والجدل. لكنّ الحركات الإسلامية السلفية التي منبعها الصحراء عملت على تقويضه. فهي تسعى إلى تدمير دولة المؤسسات وإقامة دولة الشريعة، على استبدال النص بالمؤسسة، والفتوى بالعقد الاجتماعي. وهنا يكمن جوهر المشكلة: هذه الحركات لا تفكر في المشرق كأفق ثقافي وروحي، بل كفرصة للاستيلاء على السلطة وتدمير الاختلاف وتغيير النسيج الاجتماعي والطائفي فيه.
■ منذ مدة أعلن الكاتب السوري خليل صويلح عن منع طباعة رواية قديمة له في سوريا الجديدة، ما تعليقك على المشهد الثقافي اليوم في سوريا، وحالة الرواية فيها؟
– الرواية السورية، حتى اليوم، بقيت أسيرة الحدث المباشر. انشغلت بتسجيل الفاجعة أكثر مما انشغلت باستقراء طبقاتها العميقة، وظلّت تكرس خطاباً فجائعياً يجعل من النص امتداداً للكارثة لا تفكيكاً لها. ما ينقصها هو الانتقال من الرواية بوصفها شهادةً إلى الرواية بوصفها أداة فكرية، قادرة على مساءلة البنية التي أنجبت المأساة. كثيراً ما أجد صعوبةً في إكمال رواية سورية، لأنني لا أرى الكاتب مثقفاً منشبكاً بالأحداث، قارئاً لها ومفككاً لبناها، بل أراه راوياً مسكوناً بالصدمة.
فأنا في تصوري أن الرواية لا تكتفي بأن تعكس الفاجعة، بل تذهب أبعد: تصنع وعياً جديداً بها، تحول الألم إلى معرفة، والتجربة إلى أفق. وهذا ما تحتاجه الرواية السورية اليوم: أن تنتقل من تسجيل اللحظة إلى بناء خطاب ثقافي عميق، يجعلها جزءاً من جدل سوريا الفكري لا مجرد مرآة لدمارها.
■ كيف تصف موقف العاملين في المجال الثقافي من الإبادة التي تحدث في غزة؟ وكيف تفسر هذا الموقف؟
– سؤال مهم ربما يؤشر إلى أين وصلت الثقافة الجبانة في العالم العربي. الموقف الثقافي من الإبادة في غزة لم يكن مجرد رد فعل على حدث، بل كان مرآة تكشف طبيعة الثقافة العربية المعاصرة. فقد بدا واضحاً أنّ كثيراً من المثقفين محكومون بشبكات المؤسسات التي تمنحهم امتيازاتهم.
ولهذا جاء صمتهم أو تواطؤهم انعكاساً لبنية التبعية لا لخيارات فردية فقط. لم تكن القوة هنا قوة الفكر، بل قوة المؤسسة، فيما ضعف المثقف وجبنه جاءا من خضوعه لهذا الشرط. غزة، في هذا المعنى، لم تكن رمزاً أو شعاراً عاطفياً، بل مختبراً فلسفياً لجدوى الثقافة ذاتها: هل الثقافة قادرة أن تكون فعلاً حراً، أم أنّها مجرد خطاب يتعايش مع العنف ويبرره بالصمت؟
زياد الرحباني كان شاهداً وجودياً على لبنان ما قبل الحرب وما بعدها
■ سوق الجوائز العربية والعالمية صار نوعاً من أنواع الرقابة التي تتحكم بذائقة القارئ والجمهور العربي، ما رأيك في الدور التي تضطلع به هذه الجوائز؟
في الواقع أنا خلاف ما يقال عني، لست ضد الجوائز، بل على العكس أرى أهميتها حين تمنح للأعمال الأصيلة التي توسع أفق الأدب وتغامر في اللغة والمعنى. لكن ما حدث أنّ الجوائز، في صورتها الراهنة، تحولت إلى ما وصفه بورديو بالبضاعة المدارة، وهي شكل من الرقابة الناعمة توجّه الذائقة كما يوجّه السوق قيمة السلع. هي تمنح اعترافاً ضرورياً، لكنها في الوقت ذاته تقيّد الخيال، وتحوّل الأدب إلى سلعة مصقولة تدخل في منظومة سياسية موجهة.
لكن حدثت التماعات بسبب شجاعة اللجنة. لولا وجود جورج طرابيشي لما حصل ربيع جابر على «البوكر». لهذا أقول إن الأدب الحقيقي يجب أن يبقى قادراً على تجاوز هذه الأطر. فالكتابة ليست سباقاً مؤسسياً على الاعتراف، بل فعل حرّ يجرّب المجهول. وحين تمنح الجوائز عمقها للأصالة والابتكار، تصبح أداة لإغناء الأدب لا لترويضه، وتتحول من رقابة خفية إلى اعتراف حقيقي بما هو استثنائي.
■ شهد هذا العام عودة عدد من معارض الكتاب في الدول العربية، ما المعارض التي زرتها وما رأيك في المستوى المقدم ضمنها؟
– أراها اليوم صراعاً وجودياً بين الكتاب والزمن، بين الذاكرة التي تصون المعنى والهدر الذي يبتلع كل شيء. قد لا تنتج المعارض ثقافة جديدة، لكنها تحافظ على الشعلة التي لا تزال تقاوم العدم، وتمنح حضوراً حسياً لفعل القراءة الذي صار مهدداً بالذوبان في الشاشة. هي ليست مجرد حدث تجاري، بل طقس مقاومة، محاولة أخيرة لحماية الأثر الورقي من تسونامي الصورة والسرعة والنسيان. إنها، في جوهرها، استعادة لذاكرتنا الأولى: كما قاوم الإنسان زمن الشفاهية بالكتابة، نقاوم اليوم زمن الشاشة بالورق. الكتاب في المعرض ليس سلعة، بل جسد حي يذكرنا بأن الثقافة ليست فكرة معلقة في الهواء، بل تجربة ملموسة تمسك باليد، تشم، وتحفظ كأثر ضد الزوال.
■ لا يقتصر عملك على الرواية فأنت مدير النشر في «دار المدى»، وأصدرت أخيراً ترجمة لملحمتي الألياذة والأدويسة؟ لماذا اخترت هاتين الملحمتين الشعريتين؟ وهل الترجمة لا تزال حاجة في زمن الذكاء الاصطناعي الذي يترجم ويقدم ملخصات لأهم الكتب؟
– أختلف معك، فالترجمة ليست نقلاً بل خلق كما قال جورج شتاينر، فالمترجم لا ينقل النص، بل يولده من جديد في لغة أخرى. وهذا ما لا تفعله الآلة. أما اختياري لترجمة الإلياذة والأوديسة لأنهما ليسا مجرد نصين كلاسيكيين، بل هما أصل الحكاية الإنسانية. الإلياذة ليست عن طروادة فقط، بل عن الحرب كقدر بشري. والأوديسة ليست عن عودة أوديسيوس فقط، بل عن معنى البحث عن البيت في عالم بلا استقرار. ومن دون شك، جعلتني الحرب في العراق وسوريا أفكر ملياً بهذين النصين، ليس كنصين قديمين بل كنصين راهنيين.
■ كتبت في آخر منشور لك تعليقاً على الوضع في لبنان بناء على زيارتك الأخيرة، ما أكثر ما تغيّر فيها بالنسبة إلى الكاتب القادم من العراق والشام؟
– أقولها لك بصراحة إنّ بيروت بالنسبة إلي منذ طفولتي هي فكرة محتدمة، عصية على الاختصار. نعم تغيّرت مثل جسد عاشق استنزفه الحب والحرب معاً، لكنها لم تفقد جوهرها: المدينة التي كانت تغني قد تتمتم اليوم، لكنها لا تصمت، والمدينة التي وعدت بالحرية قد يثقلها الخوف والانتظار، لكنها لما تزل قادرة على استدعاء الحلم.
كل مرة أزور فيها بيروت أراها تعيش عوداً أبدياً: انهيار يتكرر وقيامة تتكرر، لتصير نموذجاً وجودياً لمدن المشرق التي لا تموت، حتى هشاشتها ليست علامة ضعف بل علامة حياة، لأنها مرآة المشرق بكل تناقضاته: الحرية والفوضى، الكوزموبوليتية والانغلاق الطائفي، الجمال والدمار.
بيروت قبل أن تكون عقدة جيوسياسية، هي عقدة ثقافية، حيث تحول السياسة إلى مصير، والمأساة إلى نص، والخراب إلى موسيقى. هنا يكمن سرّها: إنّها قادرة على تحويل المحنة إلى لغة، وعلى مواجهة سؤال هايدغر: كيف نسكن العالم حين يتحول إلى خراب؟ بيروت تجيب كما تجيب المدن الكبرى: نسكنه بالثقافة، بالشعر والمسرح والموسيقى، بالذاكرة التي تبقى محتدمة رغم كل سقوط.
■ هل تشعر بأن اللحظة الراهنة تشبه تلك التي سبقت الحرب الأهلية، وهو نقاش عاد إلى الواجهة بعد استحضار عدد من أعمال زياد الرحباني إبان وفاته؟
نعم أنا معك، اللحظة الراهنة في لبنان تشبه ما سبق الحرب الأهلية: انهيار اقتصادي خانق، انقسام طائفي متجذر، عجز سياسي يراوح مكانه. غير أن الفارق أن الناس اليوم يعرفون أنّ الحرب لا تحلّ شيئاً، وأن الدم لا يعيد بناء وطن. ومع ذلك، فإن استدعاء أعمال زياد الرحباني بعد وفاته يكشف أن الخوف من التكرار ما يزال يسكن الذاكرة الجماعية. فزياد لم يكن موسيقياً فقط، بل كان شاهداً وجودياً على لبنان ما قبل الحرب وما بعدها، مسجلاً في موسيقاه ومسرحه عبثية الانقسام، واستدعاؤه ليس مجرد حنين، بل فعل مقاومة ثقافية ضد النسيان، وكأن اللبنانيين يقولون عبره إنهم لا يريدون العودة إلى الكارثة، لكنهم يخشون أن يكونوا محكومين بها. هنا تتجلى الفلسفة القاسية للتاريخ: أنه لا يكرر نفسه كصورة مطابقة، بل يعود في هيئة جرح قديم يتفتح كلما اعتقدنا أنه التأم.
رحلة بين التاريخ والفلسفة والصوفية
صدرت حديثاً عن «دار المدى» رواية «المستشرقة الألمانية والعطار النيسابوري» للكاتب علي بدر. تندرج الرواية ضمن الأعمال التاريخية الفلسفية و تحكي مغامرة المستشرقة الألمانية آنماري شمل مخطوطة نادرة من كتاب «منطق الطير» لفريد الدين العطار النيسابوري، ولكنها لا تقتصر على الأدب أو الفلسفة فقط، بل تسلط الضوء أيضاً على طبقات التاريخ المنسي للشرق الأوسط في خمسينيات القرن العشرين، مروراً بإسطنبول وقونية وطهران وصولاً إلى نيسابور وبغداد.
في هذه الرواية، يختار علي بدر أن يتحدث بصوت أنثى، ما يمنح السرد طابعاً فريداً ويعكس تأثير الكتابة الاستشراقية في نصه، مع الحفاظ على حضور الكاتب كامناً خلف بطلة الحكاية لا يقطع الوصل بينها وبين القارئ.
تبرز الرواية العلاقة بين الاستشراق والتصوف، فتأخذ القارئ في رحلة روحية ونفسية ممتعة، مشبّعة بسحر العوالم الشرقية وتنوعها الثقافي والجغرافي، بدءاً من معتقلات ألمانيا إبان هزيمة النازية وصولاً إلى تركيا بعد عصر كمال أتاتورك.
كما تظهر في الرواية ميزة علي بدر في بناء الحبكات التشويقية والبحثية، حيث ينغمس القارئ مع البطلة في البحث عن سرّ لا يُفهم فوراً، لكنه يشعر به ويصبح جزءاً منه.
وعندما يصل القارئ إلى عبارة «الطرق كلها تؤدي إلى العارف، لكن السائر هو السر» يجد نفسه جزءاً من الحكاية ويخوض تجربته النفسية الخاصة أيضاً. مع ذلك، قد يجد بعض القراء صعوبة في متابعة الأحداث بسبب التعقيد الزمني والمكاني، إذ تجري الحكاية في مدن قديمة وعصور متقاربة لكنها متعددة، ما يتطلب متابعة دقيقة من القارئ. تُعد هذه الرواية إضافةً قيمةً إلى أعمال علي بدر، إذ تمزج بين التاريخ والفلسفة والثقافة، مقدمة قراءةً شيقة ومفيدة لعشاق الأدب العربي المعاصر.