فيلم «اتصال الهامش» … الربح أولا.. والعالم إلى الجحيم

فيلم «اتصال الهامش» … الربح أولا.. والعالم إلى الجحيم
تركز أحداث الفيلم على مشكلة تواجه إحدى كبريات الشركات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تكتشف الشركة انخفاضا في الأرباح خلال أسبوعين، فتقرر الإدارة العليا فصل عدد كبير من موظفيها في جميع فروعها في أنحاء العالم، للتقليل من التكاليف. ولكن المفاجأة الحقيقية تحدث عندما يكتشف أحد الموظفين الشباب في ساعة متأخرة من الليل، أن موجودات الشركة تهوي بسرعة فائقة، وأن انخفاض قيمتها بمقدار الربع سيفوق قيمة الشركة الكلي، ولكن الربع نسبة متفائلة جدا، لأنها في طريقها إلى الانخفاض إلى القاع، لتصبح عديمة القيمة، فيتصل بمديريه، الذين سرعان ما يجتمعون بعد منتصف الليل لإنقاذ الشركة. ويقترح المدير العام بيع كل ما تملكه الشركة فور بدء العمل في الصباح التالي، إلا أن رئيس أحد الأقسام ينذره بأنه في الحقيقة يبيع أصولا سيكتشف المشترين خلال أيام قليلة أنها لا تساوي شيئا، ما يعني أن سمعة الشركة ستنتهي، وفي هذه الحالة لن يشتري أحد منها شيئا بعد ذلك، وأن هذا سيسبب خسائر فادحة في الأسواق العالمية، ما سيؤدي إلى انهيار جميع الأسواق المالية في العالم لعدة سنوات. ولكن المدير العام يجيب ببساطة أنها الطريقة الوحيدة لاحتمال بقاء الشركة في الوجود واستمرار الإدارة العليا في إدارتها، فيأمر ببيع كل ما يمكن بيعه قبل منتصف اليوم التالي. وهذا ما يحدث في النهاية حيث يبيعون كل شيء ويفصلون أغلب الموظفين كي تبدأ الشركة من البداية.
من المدهش أن قصة الفيلم واقعية للغاية، فهذا ما حدث في الواقع عام 2008 عندما عصفت بالعالم أزمة مالية، بسبب أزمة قروض المصارف الأمريكية مسببة خسائر في العالم، قدرت بأكثر من تريليوني دولار. وقد ذكر النقاد أن القصة مقتبسة من القصة الحقيقية للمصرف الشهير «ليمان برذرز». ولكن هذا المصرف لم يكن أول من بدأ بالبيع، كما أنه انهار تماما واختفى. ولذلك فإن القصة أقرب إلى مصرف شهير آخر وهو «جي بي مورغن» الذي كان أول من قام بالبيع عام 2008 عندما شعر موظفوه ببداية المشكلة، التي نراها في الفيلم، وكاد هذا المصرف ينهار لولا إنقاذه من قبل الحكومة الأمريكية وبيعه لمصرف «تشيس مانهاتن».
بذل المخرج قصارى جهده لجعل أداء الممثلين واقعيا، إلى درجة أن يبدو كل شيء وثائقيا. ولأن أغلب أحداث الفيلم تقع في مكاتب الشركة، بدا وكأنه مسرحية مصورة حتى إنه صور مشاهد الفيلم في مكاتب شركة مالية حقيقية. ولكن المخرج فشل بعض الشيء في أضفاء الحرارة على الأحداث، وكانت بعض المحادثات طويلة، أكثر مما ينبغي، ما يجعل المشاهد العادي يشعر بالممل أحيانا، أي أنه ألح في تصوير واقعية الأحداث، ومحاولة تبسيطها كي تكون مفهومة للمشاهد العادي. وتكون مهارة المخرج في هذه الحالة بالغة الأهمية، ففي فيلم تنحصر المشاهد في مكان واحد، ويعتمد على النقاشات بين الشخصيات، ينجح المخرج البارع في جعل المشاهد مثيرة للاهتمام. ونجد هذا في أفلام شهيرة صورت أحداثها في غرفة واحدة مثل «أحد عشر رجلا غاضبا»، ولكن مخرج هذا الفيلم لم يكن بارعا هنا.
أما أداء الممثلين فكان دقيقا للغاية، لاسيما الممثل كيفن سبيسي، الذي عرف كيف يعبر عن شعور الرجل الطيب المجبر على القيام بعمل سيئ. ومن الجدير بالذكر أن جميع شخصيات الفيلم غير شريرة، بل إنهم أناس بارعون في عملهم، ويحاولون القيام بواجبهم بشكل صحيح، إلا أنهم وجدوا أنفسهم في موقف مفاجئ ومخيف، فيحدث تواصل، وأحيانا احتداد، بين الجميع للتوصل إلى تسوية مقبولة. وفي مثل هذه الحالة، فإن الأمر يحتاج إلى شخص في قمة الهرم الإداري ذي كفاءة عالية وجرأة في اتخاذ القرار لإنقاذ الموقف. وأدى هذا الدور الممثل البريطاني جيرمي آينز، الذي كان رائعا في دور المدير الجريء القادر على إنقاذ الشركة في أسوأ لحظاتها، دون أن يفقد صوابه مهما كانت العواقب. وكان مشهد قدومه ليلا بالهليكوبتر شبيها بقدوم دراكيولا لحضور مذبحة مريعة.
كانت إحدى شخصيات الفيلم تتساءل باستمرار، عن حجم دخل موظفي الشركة. وعادة لا يسأل الموظفون هذه الأسئلة، ولكن سبب إبرازها هنا كان لتوضيح الحالة المالية لهؤلاء الموظفين للمشاهد، ودرجة المنافسة والحسد بينهم. وكانت الأرقام المذكورة حول مداخيل الموظفين في الفيلم واقعية، وتدل على المستوى العالي لحياة هؤلاء الموظفين ودقة الفيلم. ولمعالجة عدم فهم المشاهد العادي لعمل هذه الشركات، والاصطلاحات التي يستعملها موظفوها، فإننا نجد في أكثر من مشهد، أن موظفا يطلب من زميله استعمال لغة بسيطة كي يفهمها، لاسيما المشهد الذي نجد فيه مدير الشركة يطلب من الموظف الذي كان أول من اكتشف المشكلة، أن يتكلم معه وكأنه طفل أو حتى كلب.
قد يثير الاسم الغريب للفيلم حيرة القارئ، وهو على حق في هذا، لأنه تعبير لا يعرفه سوى من عمل في هذه الشركات المالية والمصارف، إذ يعني محاولة موظف الشركة إنقاذ الموقف عندما يكتشف أن الأصول التي تضمن قروضا للشركة، أصبحت أقل قيمة من القروض نفسها، وقد يكون هذا العنوان نقطة ضعف ساذجة من قبل القائمين على إنتاج هذا الفيلم، إذ أن العنوان المفهوم والمثير للاهتمام أحد العوامل التي تجذب المشاهد إلى الفيلم. وفي هذه الحالة لدينا اسم غير مفهوم أو جذاب لفيلم سينمائي، ولهذا السبب غُيرَ عنوان الفيلم عندما عرض في البلدان غير الناطقة بالإنكليزية، فمثلا أصبح العنوان «الانهيار الكبير» عندما عرض في ألمانيا. والجانب الآخر الغريب في الفيلم، استعمال جميع الشخصيات للشتائم والتعابير غير المالية، وكأنهم شخص واحد. وفي الحقيقة أنهم كانوا من هذه الناحية يمثلون الشخص نفسه، لأن الممثلين كانوا يرددون كلاما حفظوه من نص كتبه شخص واحد فحسب. وقد نسي هذا الشخص، أي كاتب السيناريو، أن ينوع في طرق الكلام والتعابير.
هنالك عدة جوانب تثير الجدل في الفيلم، فمثلا عدم خوف كبار موظفي الشركة الواضح من إجراءات الحكومة الأمريكية، حيث تقول إحدى الشخصيات، إن رجال الحكومة الأمريكية سوف يكونون في مبنى الشركة بعد منتصف الظهيرة، لإيقاف البيع، ولكنهم لن ينجحوا لأن القانون لا يمنع المالك من بيع ما يملكه. وإذا ظهر أن الشركة تستطيع التصرف، وكأن الحكومة غير موجودة، فالجميع يعلم أن الحكومة الأمريكية لعبت دورا أساسيا في إنقاذ كبار المصارف الأمريكية من الانهيار التام.
لا توجد لكمات، أو مطاردات بالسيارات في الفيلم، فلا توجد هذه الظواهر في عالم المال، بل مناقشات دقيقة بين موظفين بالغي الكفاءة، واحتدادات معقولة. وهذا ما ذكره أحد الصحافيين عندما كان مصادفة في مبنى شركة «ليمان برذرز» عندما واجهت هذه المشكلة، حيث وصف تصرفات جميع الموظفين بالعادية والهادئة، على الرغم من أنهم كانوا على وشك فقدان وظائفهم، وأن نتائج ما قامت به شركتهم ساهمت في وقوع الأزمة المالية العالمية، التي تقدر الخسائر العالمية فيها بأكثر من تريليوني دولار أمريكي، وإفلاس شركتهم. ولذلك لا نجد أي عنف في هذا الفيلم، فجميع الموظفين بمنتهى الرقة حتى المدير العام، بل إن «سام روجرز»، كان من أكثر الشخصيات لطافة وأخلاقا في الفيلم، وأدى دوره كيفن سبيسي ببراعة، كان بالغ الحزن على كلبته التي كانت تعاني من السرطان، وليس وجود كلبة هنا محض صدفة، لأن هذا خدعة سينمائية هدفها إثارة تعاطف المشاهد مع الشخصية السينمائية.
قد يتساءل القارئ، هل إن الشركة المالية والمصارف التي كانت تبيع هذه الأصول، وهي على معرفة تامة أن أسعارها ستنهار، كانت في الحقيقة تمارس احتيالا؟ وكان هذا الجانب موضوع نقاش حاد بين الخبراء في عالمي المال والقانون. والتساؤل الآخر، كيف استطاعت الشركة في الفيلم ومثيلاتها في الواقع الحفاظ على سرية هذه القرارات البالغة الخطورة، لاسيما بوجود وسائل الاتصال الحديثة؟ يلاحظ في الفيلم أن الشركة لا تعمل من أجل المصلحة العامة، أو مصلحة موظفيها، بل لمصلحة مالكيها وكبار موظفيها، حيث لم يهتم مديروها بمصلحة الاقتصاد الوطني، أو البلد أو الاقتصاد العالمي، وهذا يعكس الواقع، على الرغم من ادعاء مالكي وكبار مديري الشركات، العكس. أما بالنسبة للموظفين، فنجد أن الموظفين الصغار والمتوسطين، فقدوا وظائفهم بسرعة فائقة وهو بالضبط ما حدث في المصارف الحقيقية عندما وقعت أزمة عام 2008. تناولت هوليوود خفايا عالم المال من خلال أفلام شهيرة، وحاولت إظهار الجوانب المختلفة من الفساد والأنانية البالغين فيه مثل «شارع وول» (1987) «ذئب شارع وول» (2013) وغيرهما. ولكن فيلم «اتصال الهامش» كان ربما الأقرب إلى الواقع.
مؤرخ وباحث من العراق