ثقافة وفنون

دريّة شفيق … نهاية امرأة شجاعة

 

دريّة شفيق … نهاية امرأة شجاعة

بروين حبيب

مثلما تمُرّ الثمرة في حياتها القصيرة بمراحل ثلاث: التفتح ثم النضوج وبعدها السقوط، كذلك كانت حياة درية شفيق، الرائدة النسوية التي فارقت الحياة منتحرة قبل نصف قرن في 20 سبتمبر/أيلول 1975، ورغم هذه النهاية التراجيدية فقد كانت هذه المرأة مالئة الدنيا وشاغلة الناس لثلاثة عقود. ولو كتبتُ سيناريو عن حياتها لاقتصرتُ على مشاهد ثلاثة، تكفي لنعرف من هي درية شفيق.
المشهد الأول: بعد حصول درية شفيق على درجة الدكتوراه في الفلسفة بمرتبة الشرف، عن موضوع «المرأة في الإسلام» بإشراف ماسينيون سنة 1940، تقدمت للحصول على وظيفة التدريس في كلية الآداب في الجامعة المصرية، لكن أحمد أمين، وكان آنذاك عميدا للكلية، رفض تعيينها بحجة أنه «لا يستطيع تعيين امرأة جميلة لتدرّس في الكلية». وتصف درية لقاءها مع صاحب سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره بقولها، «كان رد فعله الدهشة والتحدي والاحتقار، بل وحتى الكراهية. لماذا بالله؟ لم يدعُني حتى للجلوس. فظللت واقفة، أشعر بالحرج. وفتحت باب الحديث، ولكنه سرعان ما أوصده. وتبينت رفضه النهائي دون أن ينبس ببنت شفة، فغادرت المكان وأنا حزينة». لجأت درية إلى وزارة التربية والتعليم الجهة المشرفة على الجامعة، لكن الوزير الأديب محمد حسين هيكل أخبرها، أن العميد أحمد أمين اتصل به بعد مقابلتها قائلا: «يوم تخطو درية شفيق بقدمها في الجامعة، هو يوم أغادرها أنا». ومن هذا المشهد البسيط سنتبين أي نضال كان ينتظر هذه المرأة الحديدية، لأجل الدفاع عن حقوق الملايين من النساء القابعات تحت رحمة الذكورية.

المشهد الثاني: كتبت عنه في كتابي «أبصرت بعينيها: المرأة في حياة طه حسين وأدبه»، فمن خلاله نفهم سر انتحار درية شفيق التي خذلها القريب قبل البعيد، فبعد أن قادت – وكانت رئيسة أكبر اتّحاد مصري نسائي «اتّحاد بنت النيل»- مظاهرة من ألف وخمسمئة امرأة اقتحمن البرلمان المصري لعدّة ساعات مطالبات بحقّ المرأة في التصويت، وتولّي المناصب سنة 1951، تقاطع سبيلها بعد هذا الحدث الكبير مع نصير المرأة طه حسين، حين اعتصمت مع 9 نساء سنة 1954 في مبنى نقابة الصحافيين، معلنات أنهن أضربن عن الطعام حتى يتم تعديل قانون الانتخاب، وتمنح المرأة حقها في الترشح للبرلمان، وأن يكون للمرأة تمثيل في الجمعية التأسيسية لوضع دستور مصر الجديد، بل اعتصم معها بعض النساء في الإسكندرية أيضاً، وفي مجلس قيادة الثورة نفسه. وقد شنت الصحافة يومذاك حملة على المعتصمات زاعمة، «أنهن يقضين الليل مع الصحافيين، ومتهمة أزواجهن بأنهم ليسوا رجالاً، وأنهم عار على الإسلام وأن عليهم ضرب زوجاتهن وإعادتهن إلى ديارهن، وأنهن لسن مضربات عن الطعام، بل يتناولن الطعام سرّاً»، وأن درية شفيق تأكل الكستناء المغطاة بشراب السكر حتى لقبتها الصحافة بزعيمة المارون غلاسيه.

لم يعجب الأمر طه حسين، رغم أنه هو من ساعد درية شفيق على دراسة الفلسفة في فرنسا، حينما كان عميدا للجامعة. وكتب مقالاً في جريدة «الجمهورية» بعنوان «العابثات» مبرراً رفضه لصنيعهنّ، ذاكراً أنّ البلاد في مواجهة استحقاقات كبيرة، وتمرّ بمنعطف تاريخي لا يحتمل هذه الخزعبلات، ووصف تحرّكهنّ بالسخيف، واستهزأ من لقب الصائمات الذي وُصفن به، لإضرابهنّ عن الطعام، فقال: «الله لا يحبّ صوماً يقطعه شراب الليمون، والله لا يحبّ صوماً يراد به غير وجهه.. وإن كان وجه الغانيات الحسان.. وهو بعد هذا كلّه صومٌ لا يحبّه الذوق الذي هو من طبيعة السيّدات الأوانس، فليس من الذوق في شيء أن يعبثن والشعب جادّ». وذهب أبعد من ذلك حين حرّض أهالي المعتصمات عليهن فكتب: «ولهؤلاء السيدات والأوانس أولياؤهم الأزواج والآباء. فكيف شارك هؤلاء الأولياء في هذا العبث، وما لهم لم يردوا أزواجهم وبناتهم عنه، وما لهم لا يردونهم عن المضي فيه».

ثمّ ثنّى طه حسين بمقالٍ آخر سماه «عبث العابثات» حين ردّ عليه حسين فهمي رئيس تحرير جريدة «الجمهورية» بمقال عنوانه «لا يا أستاذي الدكتور» وكذلك فعل الصحافي عميد إمام بمقال «العابثون لا العابثات»، يستغربان موقفه، ويطالبانه باحترام الرأي الآخر، وهو الذي كان نصير المرأة، واتُّهم من قبل مناوئيه بالتحرّر. وهنا كتبت درية شفيق مقالاً توضّح فيه حقّها في المطالبة بإحلال حقوق المرأة المصرية في الدستور الجديد، وردّت بقسوة على طه حسين ابتداء من عنوان المقال «طه حسين وعجائز الفرح»، واتّهمته بالنفاق السياسي قائلة: «تكلّم عن المعذّبين في الأرض وأسهب في الكلام، حتى إذا قفز به كلامه إلى مقعد الحكم والسلطان، اندفع يمدح الطاغية، ويرفعه في أواخر أيامه إلى مصافّ الأئمة والقدّيسين». كتب طه حسين رسالة مفتوحة وجّهها لرئيس التحرير إحسان عبد القدوس، ولم يذكر فيها اسم درية شفيق قال فيها إن على كاتبة هذا المقال «أن تبحث عن كاتب أفضل من الذي كتب لها هذا المقال». وأنه مشغول «عن صوم الصائمات وإفطار المفطرات ونقيق الضفادع وطنين الذباب، بما هو أعظم من هذا كله خطراً وأنفع للناس». والحقيقة أنّ هذا الموقف مستغربٌ من طه حسين وهو المعروف بمناصرته لقضايا المرأة والدفاع عنها. ولا يمكن تبرير ذلك، غير أننا نرجعه إلى سببين رئيسيين:
أولهما: العلاقة الوطيدة التي ربطت طه حسين بجمال عبد الناصر، فقد أيد ثورة 1952 من أيامها الأولى وسماها ثورة، ورأى فيها تجسيدا لأفكاره الإصلاحية، وانتصارا لمفاهيم العدالة الاجتماعية وكان عبد الناصر يبادله الاحترام والإعجاب، فقد منحه قلادة النيل عام 1965، وهي أعلى أوسمة الدولة وقدمها له في بيته، حيث كان طه حسين يعاني من المرض، فكان طه يجد نفسه ملزما أخلاقيا وانسجاما مع قناعاته أن يدافع عن خيارات القيادة الجديدة، ويمنع بسلطته الفكرية ما يراه معرقلا لمسيرة الثورة، وإخلالا بالأولويات، وربما كان ذلك منه لسوء تقدير للحركة النسوية، أو لعدم وضوح الرؤية لديه، فاتخذ موقفه المخالف لقناعاته السابقة.
ثانيهما: ما جرّه الجدل من حدّة ولجوء إلى استعمال العنف اللفظيّ، فاستعمل طه حسين أسلوب السخرية للحطّ من هذا التحرك إذ رآه تمثيلا واعتبر هؤلاء المعتصمات قد استجبن لدعوته بترقية التمثيل في مصر، بل لمّح إلى أنهن بطريقة ما خائنات للوطن «فلهؤلاء السيدات الأوانس وطن وعليهن لهذا الوطن حقوق ينبغي أن لا تكون موضوعا للعبث». وقد كرر طه حسين عدة مرات كلمة سخيف لتتفيه ما قام به هؤلاء النساء. مما يرسم لنا صورة مغايرة لطه حسين، الذي اتهم بالتحرر وعدّ نصيرا للمرأة، ووقف في وجه من حاول منعها من حقها في التعليم، وليس التمثيل السياسي سوى امتداد طبيعي لهذا الحق.

وقد فوجئ كثير من محبّي طه حسين بموقفه هذا، واعترض عليه كثر أيضا كان أحمد بهاء الدين أعلاهم صوتا حين قال، «حتى طه حسين صاحب الدفاع القديم عن حق الفتاة في دخول الجامعة وصف صيام السيدات بأنه عبث». ورغم مقالات طه حسين القاسية، افتكت المعتصمات وعدا من رئيس مصر آنذاك محمد نجيب بتحقيق مطالبهن.
المشهد الثالث: يختصره ما كتبه الصحافي مصطفى أمين، «رأيت حشدا من الناس تحيط بملاية بيضاء. سألت ماذا حدث. وقالوا: «لقد ألقت السيدة نفسها من شرفة الطابق السادس». نظرت تحت الملاية البيضاء وجدت جثة جارتي درية شفيق»، هذه النتيجة كانت مقدمتها ثماني عشرة سنة من الإقامة الجبرية فرضها جمال عبد الناصر على درية شفيق، واستمرت في عهد السادات وإن بدرجة أقل. عزلة حصيلتها 550 صفحة باللغة الفرنسية وما يفوق الـ 4200 صفحة باللغة الإنكليزية وستة دواوين شعرية، ولكن متى كانت الكتابة تقي من الجنون أو الانتحار، خاصة لامرأة «فقدت حريتها ومجلاتها وأموالها وزوجها لأنها طالبت بحقوق المرأة، فدفعت ثمنا فظيعا لمقاومتها، بينما استسلم الآخرون»، كما كتب مصطفى أمين أيضا. ورغم أن لها ابنتين وأحفادا كانت النهاية منطقية، فالعزلة الإجبارية تقود إلى الاكتئاب والاكتئاب يقود إلى الانتحار. وهكذا كان.
وبعد خمسين سنة من رحيلها ما زال مشروع درية شفيق غير مكتمل، بعد أن غيّبها الجحود، ولا يزال وضع المرأة العربية مترديا، وإن نالت بعض الحقوق والحريات، ولا تزال صرخة درية شفيق تائهة في المدى تنتظر من يسمعها: «لن يسلم أحد للمرأة حريتها إلّا نفسها. لقد قررت أن أكافح حتى آخر قطرة في دمي لكسر قيود النساء في بلادي».
شاعرة وإعلامية من البحرين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب