ثقافة وفنون

لستُ معكَ ولستُ ضدكَ… ولكن مع عقلي!

لستُ معكَ ولستُ ضدكَ… ولكن مع عقلي!

وسام حسين العبيدي

في خضم أحداثٍ ومواقف وقضايا كثيرة يمثل بعضُها جانبا اجتماعيا، أو سياسيا، أو دينيا، أو ثقافيا، أو أدبيا، أو رياضيا، أو صحيا، أو تاريخيا، أو قانونيا، أو إعلاميا، إلخ من جوانب حياتية، دائما ما نجدُ ثمة فريقين – سواء في الواقع المعيش أو الافتراضي – يتنازعانِ في بيان كل واحدٍ منهما تمثيل الحقيقة، وتقديم نفسه أو الجماعة التي تمثل رأيه، أو موقفه بأنه الحق المُطلق، مقابل تقديم الآخر الذي يقف بالضد من رأيهِ أو موقفه بأنه الباطلُ المُطلق، وتستعِر حُمى التنافس لدى كل شخص ينجذبُ لأحد هذين الفريقين، في استعراض كل ما يسعه في سبيل تحقيق التميز والظفر على مُمثلي الجانب الآخر، وتسفيه الرأي المخالف لهم، وصولا إلى تسقيط ممثلي ذلك الرأي أو الموقف، حتى إن تم ذلك عبر استدعاء مواقف أخرى سابقة لا علاقة لها بالحدث، أو الموقف الآني محل النزاع؛ لبيان أن ممثلي ذلك الرأي، أو ذلك الموقف لديهم من المواقف السلبية في أحداث سابقة، ما يعزز كونهم على باطل أو خطأ مقابل الرأي أو الموقف المخالف لهم، بما يؤكد بطريقة عكسية صواب مُمثلي تلك الجماعة.

وهنا – لا سيما في الفضاء الرقمي الافتراضي – تسهل عملية وضع المادة الصوتية والمرئية وتوظيف الوثائق والمعلومات التي من شأنها تعزيز رأي أو موقف كل جماعة بما تدعيه و «كل حزبٍ بما لديهم فرِحون» بما يُشهرونه في وجه الخصم من أدلةٍ تثبت أحقيتهم في هذا الموقف أو الرأي، وفي الوقت نفسه أتاحت تلك السيولة الرقمية الفرصة لمن يحترف في تزوير/ فبركة بعض الأدلة، من صور أو فيديوات أو غيرها من وثائق، وتوظيفها تارة بما يخدم توجه هذه الجماعة بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، من خلال تسقيط أدلة ممثلي الموقف المخالف لهم، ولحين ما يظهر زيف تلك الوثائق أو المقاطع الصورية أو الصوتية، ويثبت زيفُها، فقد تجد خلال تلك المدة من تداولها واقتنع بحجيتها على موقف الجماعة التي يتفق وآراءها، أو التي يختلف معها، وهذا ما يمكن أن أصطلح عليه بالفتنة الرقمية، التي تأخذ صداها عند لفيف من المتابعين، يتفاعلون معها من دون أن يتحروا مصادر تلك المعلومات ومدى مطابقتها للواقع.

إن ما أريدُ الوصولَ إليه، بعد استعراض المشهد القائم على منصات التواصل الاجتماعي في مختلف دول العالم من تجاذبات في مختلف المجالات، الذي يعكس بصورة مباشرة أو غير مباشرة مؤشر العلاقات الاجتماعية في الواقع، هو الإجابة عن السؤال الآتي: هل بالإمكان أن لا أكون مع هذا الفريق/ الجماعة في كل شيء؟ وهل بالإمكان أن لا أكون ضدها في كل شيء؟ وقبل الجواب، لا أريد أن يفهم من يقرأ هذا الكلام على أن طرح هذا السؤال يعكس روحا انهزامية لدى صاحبه، تتخلى من تبعات مسؤولية التزام موقفٍ ما، بمحاولة من يفكر باتخاذ هذا الموقف، أن يقف دوما على التل في وسطٍ اجتماعي مختلفٍ في توجهاته الفكرية والثقافية والدينية وغيرها، مُحاولا أن يُرضي الجميع، ومعلومٌ أن «رضا الناس غايةٌ لا تُدرَك» فلا يمكن أن تُرضي الجميع عليك في وسطٍ واقعي أو افتراضي، ولا بُد من أن يتخذَ منك مُمثلو هذا الفريق أو ذاك – المُختصمين في قضيةٍ أو حدثٍ أو شأنٍ من شؤون الحياة – موقفا قد يُعليكَ في نظرهم، وقد يُسقِطُك.. وهذا أمرٌ طبيعي جدا ولا بد منه..

والجواب: ليس الوقوف في الوسط، أو بالأحرى اتخاذ موقف الوسَطِية هروبا من تصنيف الآخرين لك مع أو ضد القضية أو الشأن المطروح، وبما يقع على ذلك التصنيف من تبعات، سواء أكانت اجتماعية اعتبارية، أم كانت غير ذلك، بقدر ما يُعبر عن هروب من «العقل الجمعي» أو بتعبير آخرٍ أصطفيه: «العقل الأحادي» وما يُنتِجه أو يُفرِزُهُ هذا العقل – طبعا مجازا يُصطلح عليه بالعقل، وإلا ففي حقيقة مُخرجاتِهِ ليس إلا ترجمة واضحة لغيابِ دوره – من مواقف وأحكام يتخذُها صاحبُها لا علاقةَ لها بالعقل والمنطق والعقلانية، بله الذوق السليم بعيدا عن الانتماءات والمُسميات، إذ دائما ما يستثمر أصحاب هذا التوجه أو ذاك القياس ومنه يأخذون التعميم، بوصفه طريقة سهلة تُريحُ العقلَ، وتمنحُهُ إجازة مفتوحة، ولا تُتعِبُهُ بالمُطلق، في مناقشة فحوى قضيةٍ ما بحد ذاتها، من دون النظر في أمثلةٍ أخرى قد تختلفُ الحالةُ أو الظروف التي أدت إليها تلك القضية، فمثلا إذا كان ثمة شخص أو جهةٌ ما – أيا كانت سياسية أم ثقافية أم اجتماعية، أم غيرها من توجهات – أخفقتْ في تصدير منجزٍ لها، أو تصريح فيه ما فيه من الإشكالات الواضحة، أو بتصرفِ ليس بالمَرضي أو الصائب لشخصٍ ينتمي إلى تلك الجماعة أو تلك الجهة، سيكون مثل ذلك المُنجز أو ذلك التصريح أو التصرف في ذلك الموقف ذريعة لتسفيه/ تسقيط/ دحض وإبطال كل ما يصدر عن ذلك الشخص، أو تلك الجهة أو ذلك الفريق أو الجماعة، في مواقف أخرى لهم، وهذا عقلا ومنطقا غير صحيح؛ لأنه إذا صدر الخطأ أو التهافت من شخصٍ أو جهة ما، فهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما سيصدر عنه/ـها، سيكون على شاكلة ذلك الخطأ أو التهافت، إلا في حال تكرار الهفوات والأخطاء بطريقة مكشوفة وواضحة للعيان، بحيث يمكن أن يقف الإنسان الواعي من ذلك الشخص أو تلك الجهة موقف المُستريب أو المُتحفظ، وهنا تلجأ الجماعة المناوئة لتوجهات الأخرى إلى جلب ذلك النموذج السلبي من شخصية أو موقف أو حدث أو ملف أو سلوك ينتمي إلى تلك الجهة، فيحاول أن يُسقط سلوكياته أو ما يُحسب عليه على تلك الجماعة التي ينتمي إليها، في المواقف الأخرى أو المنجزات التي تُحسب لهم، أو أي شيء يمكن أن يعد حسنة أو منقبة تزين صورتهم، باعتبار أنه يُمثلها، وبالمُحصلة يكون سببا لاستدلال الجماعة المناوئة على بطلان الأخرى، أو تهافت خطابهم، أو انحرافهم في نظر الرأي العام، لأجل أن يُعلي من شأن جماعته من باب: «وبِضدها تتميزُ الأشياءُ» وهنا أقول لمن أراد تفعيل مدركات عقله: بإمكانك أن تقف في الوسط، ولا تنجرف مع التيار الذي يُؤيد بالمُطلق، أو يرفض بالمُطلق هذه الجهة أو تلك، من خلال نظرك العقلي لهذه الأحداث أو المواقف أو المنجزات التي تُحسب لهذه الجهة أو تلك أو الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه أو تلك، والتفريق عقلا ومنطقا بين هذا الفعل أو هذا الموقف أو هذا السلوك وبين الآخر، من دون أخذ اعتبار بالنظرة القَبْلية المُسبقة التي تعمل على التأثير في التقييم، في الوقت نفسه لا بد من الأخذ بالاعتبار أنه لا يوجد شخص أو جماعة أو جهة – من كلا الطرفين المتنازعين – منزها بالمطلق من الخطأ أو التهافت أو السلوك غير المنضبط أو الموقف غير المحسوب، أو المنجز الذي لا يرتقي وسمعة الجهة التي يصدر عنها..

وهذا ما نجده في كل مجالات الحياة، فقد تجد من بين عدة أجهزة كهربائية أو إلكترونية تصنعها الشركة الفُلانية، نوعا منها أو أحد الموديلات للجهاز نفسه في سنة من السنوات، يكون ذا مواصفات مخيبة للمُستهلك الذي أحسَنَ الظن بهذه الشركة التي نالت من الشُهرة والصيت الحَسن في السوق العالمية، وهو أمرٌ وارد، والأمثلة عليه كثيرة، فلا يصح – والحالة هذه – أنْ يقاطع الناس جميع منتجات هذه الشركة، من أجهزة كهربائية جيدة أثبتت جدارتها في الاستهلاك، وهكذا ينبغي أن يكون التعامل بوعيٍ، لا ينطلق من تعميمات ويسحبها على جميع ما يمكن أن تنضوي تحت عنوان هذه الجماعة، أو تلك الظاهرة، أو تلك الجهة أيا كان نوع نتاجها، وبهذا يتخلص الشخص الواعي من براثن الوقوع في التحيزات التي نجدها قائمة في مختلف الشؤون والمجالات، وكثيرٌ من الناس قد ينجذب لهذا الفريق أو لتلك الجهة، من خلال استدرار عاطفته من توظيف معطيات التعميم في مسألة من المسائل، أو شأنا من الشؤون، ويكون بانضمامه «الأعمى» في هذه الحالة ترجمة حرفية لما يُصطلح عليه بـ»المشي وراء القطيع» الذي يكشف هو الآخر عن نسقِ البحث عن الأمان والراحة «العقلية» باتباع الشخص رأي الجماعة – الأكثر قربا له فكريا أو مذهبيا أو اجتماعيا – أو موقفها إزاء هذه القضية أو ذلك الحدث الراهن، وفي الحقيقة لا يستمر هذا الأمان الذي يبتغيه الشخص وراء انجراره خلف الجماعة بصورةٍ مطلقة، إلا وقتا محددا سرعان ما ينكشف ويتلاشى، في ظل سيولة/ سهولة الحصول على المعلومات المضادة لتلك التي عول عليها في توافقه مع رأي الجماعة، وهو في كل الأحوال قد خسِرَ استقلاليته في اتخاذه الموقف المناسب، لذلك الحدث أو ذلك الشأن المُختَلَفُ فيه، وسلم قياد عقله بيد تلك الجماعة أو الفرقة أو الجهة التي يمكن أن نفترض وجود مصلحةٍ لها بصورة مباشرة أو غير مباشرة في موقفها الرافض والمُناهض لتلك الجماعة أو الجهة..

وهنا من خلال اتباع الشخص الموقف العقلاني في النظر في كل مسألة أو قضية أو ظاهرة تأخذ مساحة من اهتمام الرأي العام وتنشأ حولها التفسيرات، وتدور حولها التجاذبات بين الأطراف، قد يجد الشخص أن الحقيقة أو الحق، لا ينحصر بجهةٍ دون أخرى، وبالمحصلة، قد يؤيد هذه الجهة/ الشخص/ الجماعة في هذا الموقف، وفي موقفٍ آخر قد لا يؤيدها، ويتفق في الرأي أو الموقف مع جهةٍ أخرى اختلفَ معها في موقفٍ سابق، الأمر الذي سيجعله في منتصف الطُرق بين تجاذب الآراء والمواقف بين الجماعات – على مختلف اهتماماتها سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو حتى رياضيا – بما يُشجع موقفه هذا على التفكير العقلاني المنطقي، وفي الوقت نفسه يكبح جماح «التطرف الرقمي» الذي يشهد تصاعدا ملحوظا على منصات التواصل الاجتماعي، فضلا عن الواقع. وهو موقفٌ ينسجم وتطلعات القيم الإنسانية التي نادت بها كل شرائع الأديان السماوية وغيرها، فضلا عن موافقتها على ما صرح به عدد كبير من الفلاسفة عبر التاريخ دعوا إلى تبني الوسطية والعقلانية وتجنب التطرف في الآراء، سواء كانت تلك الآراء مع أو ضد جماعة أو فكرة. فقد وقف سقراط في آرائه ومواقفه بالضد من الاصطفاف خلف جماعة أو رأي جاهز، بل كان يشجع على الحوار النقدي والسؤال الدائم، حتى مع الآراء التي يعتقدها الناس بديهية. أما أرسطو فقد دعا إلى فكرة «الوسط الذهبي» (Golden Mean) إذ يرى أن الفضيلة تكمن بين الإفراط والتفريط. فالشجاعة مثلا هي فضيلة تقع بين التهور والجبن، ورأى أن الحكم السليم لا يكون إلا بميزان من الاعتدال والتفكير المتزن. أما الفلاسفة الرواقيون (مثل سينيكا وماركوس أوريليوس) فقد دعوا إلى التوازن الانفعالي والحياد تجاه تقلبات العالم الخارجي، بما في ذلك الآراء والانتماءات، وحسب ذلك فقد رأوا أن الحكيم الرواقـي لا يتعصب، بل ينظر إلى الأمور بعقل بارد ومتزن.

وفي القرن التاسع عشر كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، قد دعا إلى «الاستقلال العقلي» في مقالته الشهيرة: «ما هو التنوير؟»، حيث قال: «التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه»، ويقصد به الاعتماد على الغير في التفكير. مُشددا على أن الأخلاق يجب أن تكون مبنية على العقل لا على الانحيازات، أو الجماعات. أما الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، فقد كان من المدافعين عن حرية التعبير حتى للآراء التي قد تكون مخالفة للسائد. في الوقت الذي شدد فيه على أهمية استخدام العقل والنقاش في تقييم الآراء، لا القبول الأعمى أو الرفض التلقائي. ودعا إلى الاستماع للرأي المخالف لأنه قد يحتوي على جزء من الحقيقة التي نفتقدها.
فما أحرانا أن نتبع عقولنا لا عواطفنا ونحترم الرأي الذي يتفق والعقل، تخلصا من براثن التعصب الفكري لشخصٍ أو لجماعة، فالعقلُ والذوقُ والفطرةُ السليمة أحق بالاتباع في أي شأنٍ من شؤون الحياة!

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب