الضمّ ليس وليد لحظته: هكذا أُكلت الضفة أكلاً

الضمّ ليس وليد لحظته: هكذا أُكلت الضفة أكلاً
تكشف خطة الضمّ الإسرائيلية الممنهجة كيف حوّلت المستوطنات والطرق العسكرية مدنَ الضفة إلى جزر محاصرة تمهيداً لابتلاع الأرض وتهجير الفلسطينيين.
أحمد العبد
رام الله | بدت مدن الضفة الغربية كجزر عائمة ضائعة على الخريطة التي وقف أمامها وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، أخيراً، وهو يشرح أمام جمهور المستوطنين خطّته لضمّ أراضي الضفة، والتي ستبتلع من مساحتها نحو 82%. والواقع أن سموتريتش يستند، في إعلانه ذاك، إلى واقع راكمت إسرائيل معالمه عبر عقود من احتلال الضفة، حيث نفّذت مخطّطات ممنهجة تمثلت في بناء المستوطنات، وشق الطرق، وإقامة الحواجز العسكرية، وابتلاع المساحات الجغرافية بطريقة مدروسة.
وبحسب المعطيات، فإن عملية الضمّ الإسرائيلية ستشمل، في حال تنفيذها، 43 مدينة وقرية وتجمعاً فلسطينياً، تمتد من الأغوار إلى شمال غرب القدس وغرب رام الله، ويعيش فيها أكثر من 106 آلاف فلسطيني، وتشمل طوباس وسلفيت وأجزاء من الخليل. وهكذا، ستتحوّل مدن من مثل جنين وطولكرم ونابلس ورام الله وأريحا والخليل، ومعها عدد من القرى والبلدات المحيطة، إلى أكثر من مئتَي كانتون أو سجن معزول، يمكن لجندي إسرائيلي واحد إغلاقها في لحظات، في ظلّ حصارها بالمستوطنات وجدار الفصل العنصري والبوابات العسكرية والحواجز.
«E1» أصبح حقيقة
أبصر مشروع «E1» الاستيطاني، الأخطر والأكبر من نوعه، النور أخيراً، ليشكّل نقطة تحوّل جذرية ونهائية في مسار المشروع الإحلالي في الضفة، تمهّد لتوجيه «ضربة قاضية» إلى الدولة الفلسطينية المنشودة. إذ يقوم المشروع، الذي يمتدّ على المناطق الشرقية من بيت لحم والقدس الشرقية ورام الله، على ربط تلك المناطق بمستوطنة «معاليه أدوميم» الواقعة بين القدس وأريحا، وبناء 3401 وحدة استيطانية جديدة في المستوطنة المذكورة، ما يعني قطع التواصل الجغرافي الفلسطيني بين رام الله وبيت لحم.
وخلال مراسم التوقيع التي أُقيمت في «معاليه أدوميم»، قال نتنياهو إن «هذا المشروع على وشك مضاعفة حجم المستوطنة، إذ سيكون هنا 70 ألف شخص في غضون خمس سنوات… وهذا تغيير هائل»، متابعاً: «نعلم أن هناك تغييراً آخر هنا، أو بالأحرى تحقيقاً آخر لوعد ليس توراتياً، بل واقعيّ. قلنا إنه لن تكون هناك دولة فلسطينية، وبالفعل لن تكون هناك دولة فلسطينية». كذلك، صادق سموتريتش على بناء 3401 وحدة سكنية ضمن المخطّط نفسه شرقي القدس، بما من شأنه فصل شمال الضفة عن جنوبها، الأمر الذي وصفه وزير «الصهيونية الدينية» بأنه «إنجاز تاريخي في مسيرة الاستيطان».
مدن الضفة: سجون كبيرة
في الثامن من أيلول الجاري، نفّذ شابان (الشهيدان مثنّى عمرو ومحمد طه) من بلدتَي قطنة والقبيبة عملية فدائية في القدس المحتلة، حيث أطلقا النار على تجمّع للمستوطنين في محطة انتظار الحافلات عند مفترق «راموت»، ما أدى إلى مقتل سبعة منهم وإصابة آخرين بجروح متفاوتة.
حينها، لم يحتَج جيش الاحتلال سوى إلى دقائق قليلة ليفرض حصاراً مشدداً على قريتَي المنفّذَين، بالإضافة إلى قريتَين مجاورتين لهما هما بدو وبيت عنان، وهو ما يكاد ينطبق على مجمل مناطق الضفة الغربية في كلّ الأوقات؛ إذ يؤكد الفلسطينيون أن دورية إسرائيلية واحدة قادرة، خلال وقت محدود جداً، على إغلاق الضفة وحصار مدنها وفرض طوق عسكري شامل عليها، وذلك بالاعتماد على منظومة البوابات والحواجز العسكرية التي طوّرتها إسرائيل خلال السنوات الماضية، وعلى شبكة المستوطنات التي تمدّدت في الجغرافيا الفلسطينية كالسرطان.
وربطاً بما تقدّم أيضاً، لا تُغفل حقيقة أن إسرائيل طبّقت نموذجاً مصغراً لضمّ الضفة، في بلدة بيت أكسا شمال غرب القدس، عندما أقامت قبل سنوات حاجزاً عسكرياً دائماً على المدخل الوحيد للبلدة، واشترطت للدخول إليها الحصول على تصريح إسرائيلي مسبق. على أن سلطات الاحتلال سرّعت من مشروع الضم منذ السابع من أكتوبر، عبر سلسلة خطوات يتصدّرها إطلاق يد المستوطنين في الضفة، وتسليحهم وتشجيعهم على ارتكاب الأعمال الإرهابية، والمصادقة على عشرات المشاريع الاستيطانية. وإلى جانب ذلك، نفّذت عمليات واسعة لتهجير التجمعات البدوية في المناطق المصنفة «ج»، والتي كانت لا تزال تحول دون الترابط الجغرافي بين المستوطنات.
أيضاً، كثّف جيش العدو حملاته العسكرية على المخيمات بهدف محوها بالكامل، مثلما جرى في جنين وطولكرم ونور شمس شمال الضفة، والتي لا تزال قوات الاحتلال تُحكم سيطرتها عليها، وتمنع عودة الأهالي الذين هجّروا منها قبل أشهر، بعدما دمّرت أكثر من ألف من منازلها، وشرّدت ساكنيها الذين وجدوا أنفسهم يرزحون تحت ظروف إنسانية قاسية داخل مخيمات مؤقتة أو لدى أقاربهم، في ما يبدو تمهيداً لتهجيرهم نهائياً، ضمن خطّة الاستيلاء الكامل على المنطقة «ج»، وطرد أكبر عدد ممكن من سكانها.
وفي موازاة ما تقوم به إسرائيل على الأرض، فهي تعمل أيضاً على تغيير المرجعية القانونية للضفة الغربية، عبر استبدال الحكم العسكري القائم فيها بنظام تبعية مباشرة لحكومة الاحتلال، ولا سيما في المنطقة «ج»، وهو ما كان قد عبّر عنه سموتريتش بوضوح، حين دعا إلى عزل الفلسطينيين في ما تبقّى لهم من مدن وقرى، وتجريدهم من أي هوية سياسية أو قدرة على الاستدامة والتطور، ومنح مناطقهم وتجمّعاتهم صلاحيات حكم بسيطة، عبر العشائر مثلاً، وإدارة شؤونهم بمرجعية إسرائيلية غير مباشرة.
البؤر الرعوية: سلاح الضم السريع
تولي إسرائيل أهمية مضاعفة لبعض المناطق في الضفة، وعلى رأسها منطقة الأغوار، التي كثّفت فيها، أخيراً، عمليات إخلاء عشرات التجمعات البدوية، ضمن سياسة التهجير القسري لسكان السفوح الشرقية. ونظراً إلى المساحات الشاسعة في الأغوار، فقد ابتكرت إسرائيل شكلاً جديداً من الاستيطان يخدم مشروع الضمّ، هو الاستيطان الرعوي الذي يقوم على السيطرة على آلاف الدونمات التي كان الفلسطينيون يزرعونها.
ويمتاز هذا الشكل بأنه لا يكلّف إسرائيل مشقّة البناء وإقامة البنية التحتية وتوصيل الخدمات اللازمة لإقناع المستوطنين بالعيش هناك، إنّما يتطلب فقط وجود مستوطن مسلّح وجنود لحمايته، ليتمكّن من السيطرة على مساحات شاسعة من الأرض، ويطلق فيها ماشيته تحت حماية قوات الاحتلال، مانعاً الفلسطينيين من الاقتراب منها. وتشير المعلومات إلى أن نحو 133 بؤرة رعوية أُقيمت في الضفة، على ما يقارب 250 ألف دونم (الدونم يعادل ألف متر مربع) في الأغوار، فضلاً عن البؤر المقامة جنوب الخليل، وما تتعرض له منطقة مسافر يطا من تهجير قسري يومي.
يبدو واضحاً أن أخطر ما نجحت فيه دولة الاحتلال، بالشراكة مع عصابات المستوطنين، هو التهجير القسري من التجمعات السكانية
ورغم أن التغييرات الميدانية في الضفة تسير بوتيرة شبه يومية، ما يجعل رصدها وتوثيقها بشكل كامل، أمراً بالغ الصعوبة، إلّا أنه يمكن تكوين صورة عامة استناداً إلى ما جرى خلال العامين الماضيين على أقل تقدير، ومتابعة حجم اعتداءات المستوطنين في شهر آب الماضي مثلاً، والذي وثقته جهة رسمية تابعة للسلطة الفلسطينية (هيئة مقاومة الجدار والاستيطان).
وبحسب الأرقام المتوافرة لدى الهيئة، فقد نفّذ المستوطنون، خلال 30 يوماً فقط، نحو 431 اعتداءً في الضفة، بمعدل يزيد على 14 اعتداء يومياً، وبواقع 321 في رام الله، و274 في نابلس، و220 في الخليل. وتنوّعت تلك الاعتداءات ما بين هجمات مسلحة على القرى، وفرض وقائع استيطانية جديدة، وتنفيذ إعدامات ميدانية، بالإضافة إلى عمليات تخريب وتجريف للأراضي، واقتلاع أشجار، والاستيلاء على ممتلكات، فضلاً عن فرض إغلاقات وحواجز.
وخلال الشهر نفسه، أسفرت هجمات المستوطنين عن استشهاد فلسطينيين في بلدتَي عقربا ودوما في محافظة نابلس، توازياً مع تنفيذ 72 عملية تخريب وسرقة استهدفت ممتلكات الفلسطينيين، وشملت اقتلاع وتسميم ما يزيد على 11700 شجرة مثمرة. وإلى جانب ذلك، حاول المستوطنون، في آب أيضاً، إقامة 18 بؤرة استعمارية جديدة، غلب عليها الطابع الزراعي والرعوي، وتوزّعت بواقع 6 في رام الله، و4 في نابلس، و3 في الخليل، و2 في بيت لحم، وواحدة في كلّ من جنين وقلقيلية وأريحا، وهو ما لا يمكن أن يتمّ بغير تعليمات واضحة من المستوى السياسي، الذي يوجّه المستوطنين بإحداث التغيير الميداني، ليتحوّل هذا التغيير لاحقاً إلى أمر واقع عبر تشريعه وتثبيته.
وفي السياق نفسه، أفادت «هيئة مقاومة الجدار والاستيطان» بأن الجهات التخطيطية في دولة الاحتلال درست، في آب، «31 مخططاً هيكلياً لصالح مستوطنات الضفة الغربية وداخل حدود بلدية الاحتلال في القدس؛ بواقع 27 مخططاً لمستعمرات الضفة، و4 مخططات لصالح مستعمرات داخل حدود بلدية الاحتلال في القدس». كما صادقت إسرائيل على «15 مخططاً هيكلياً لمستعمرات الضفة، وأودعت 12 مخططاً آخر»، وهي مخططات تضمّنت «بناء 4492 وحدة استعمارية جديدة»، و«إيداع 2328 وحدة استعمارية جديدة على مساحة تقدر بـ2594 دونماً». أما بلدية الاحتلال في القدس، فقد صادقت على مخطط واحد، وأودعت ثلاثة أخرى – للمصادقة اللاحقة – تخصّ مستعمرات داخل نطاقها.
التهجير القسري: تجربة حيّة
يبدو واضحاً أن أخطر ما نجحت فيه دولة الاحتلال، بالشراكة مع عصابات المستوطنين، هو التهجير القسري من التجمعات السكانية؛ إذ هجّرت إسرائيل قسرياً، منذ نحو عامين، قرابة 41 تجمعاً سكانياً تقع جميعها في المنطقة «ج»، في حملة تُعدّ الأكبر والأوسع نطاقاً منذ احتلال الضفة عام 1967. وبلغ عدد المهجَّرين من تلك التجمّعات أكثر من ألفي شخص، فيما يواجه آلاف آخرون في عشرات التجمعات المماثلة خطر التهجير الفعلي، نتيجة اعتداءات المستوطنين اليومية والمتواصلة.
ووفق ما ذكرته منظمة «بتسيلم» الإسرائيلية، فإن «التجمعات السكانية الفلسطينية في مناطق «ج» في الضفة الغربية، تتعرض منذ سنوات لهجوم تنفذه السلطات الإسرائيلية، تصاعد منذ تشرين الأول 2023»، وإنه «بمساعدة الدولة، أُقيمت حول تلك التجمعات، خلال السنوات الأخيرة، عشرات البؤر الاستيطانية الرعوية التي يتمثّل هدفها الرئيسي في تهجير التجمعات السكانية والاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي».
وترافق ذلك مع تصاعد حادّ في عنف المستوطنين الذين يقطنون تلك البؤر، وصولاً إلى بلوغه ذروته مع العدوان على قطاع غزة، حيث تحوّل إلى «روتين يومي مرعب»، يتجلّى في الاعتداءات الجسدية الخطيرة على السكان، والاقتحامات المتكررة للتجمعات والمنازل ليلاً ونهاراً، بالإضافة إلى إشعال الحرائق، وطرد الرعاة الفلسطينيين من مراعيهم، ومنع المزارعين من الوصول إلى حقولهم، فضلاً عن قتل وسرقة المواشي، وإتلاف المحاصيل، وسرقة المعدات والممتلكات الشخصية، وإغلاق الطرق، وفقاً لـ«بتسيلم»، التي أوضحت أن عمليات التهجير لم تقتصر على 41 تجمعاً أُخليت بالكامل، بل شملت أيضاً 8 تجمعات أخرى جرى تهجيرها جزئياً، إضافة إلى ترحيل سكان المخيمات.
دولة المستوطنين قيد التشكيل
يؤكد الخبير في شؤون الاستيطان، سهيل خليلية، في حديثه إلى «الأخبار»، أن إسرائيل «تعمل بشكل حثيث على تحويل مدن الضفة وبلداتها إلى جزر وكانتونات وأقاليم منفصلة عن بعضها»، مستدركاً بأن ما عرضه سموتريتش حول السيطرة على 82% من الضفة «ينطوي على مبالغة واضحة»، موضحاً أن «الفلسطينيين يسيطرون حالياً على ما نسبته 39% (المناطق «أ» و»ب»)، بالإضافة إلى المحمية البرية في بيت لحم».
ويتمثّل الطموح الاستيطاني الفعلي، بحسب خليلية، في «السيطرة على أكبر مساحة من الأرض، وهي مساحة تراوح بين 38 و45% من مساحة الضفة، وتسيطر عليها إسرائيل بالفعل عبر المستوطنات وجزء من البؤر الاستيطانية، والمناطق العسكرية المغلقة، والمحميات الطبيعية، وشبكة الطرق الالتفافية».
ويبيّن خليلية أن فكرة المشروع الاستيطاني «لا تقتصر على فصل المناطق الفلسطينية عن بعضها، وإقامة أقاليم معزولة، إنما تتجاوز ذلك إلى ما أعلنه سموتريتش أخيراً حول إقامة «دولة حكم ذاتي للمستوطنين» في الضفة الغربية»، لافتاً إلى أن «إسرائيل لا تكتفي بالتصريحات الاستعراضية، بل تنفذ خطوات عملية لترسيخ هذا الكيان، عبر تكثيف البناء الاستيطاني وإقرار مشاريع لم يكن من الممكن أن تبصر النور لولا وجود الحكومة الحالية». ويرى أن هذه الخطوات من شأنها أن «ترفع عدد المستوطنين تدريجياً وصولاً إلى الهدف المعلن سابقاً، وهو الوصول إلى مليون مستوطن في الضفة».
كذلك، يشير إلى أن إسرائيل تعمل على تأسيس ركائز اقتصادية وأمنية لدولة المستوطنين المزعومة؛ إذ يجري «زيادة عدد المناطق الصناعية التابعة للمستوطنات في الضفة، باعتبارها قاعدة اقتصادية مركزية لأي دولة»، متحدثاً أيضاً عن «إعادة تشكيل شبكة الطرق في الضفة لتخدم الوجود الاستيطاني بالدرجة الأولى»، إلى جانب «إنشاء جيش للمستوطنين، مسلح ومدرّب (بعدما حصل أكثر من 350 ألف مستوطن على رخصة سلاح)»، و«ضخ ميزانيات لحراسة المستوطنات، وتعزيز أمنها عبر أبراج مراقبة وكاميرات ودوريات مسلحة»؛ وهذا كلّه من شأنه أن يرسّخ، وفقاً لخليلية، «البنية التحتية الصناعية والعسكرية لدولة المستوطنين قيد التشكيل».