مقالات

نهاية حلّ الدولتين العنصري لفلسطين: آلام المخاض لولادة واقع جديد

نهاية حلّ الدولتين العنصري لفلسطين: آلام المخاض لولادة واقع جديد

حيدر عيد
إسرائيل، بدعم من الإمبريالية الغربية المتوحشة؛ الإمبراطورية الأميركية وحلفائها، تواصل سياسة تغيير الحقائق على الأرض عبر تنفيذ مزيج من التطهير العرقي في الضفة الغربية والإبادة الجماعية الهمجية في غزة، في تحدٍّ سافر للقانون الدولي، ولكل القيم الإنسانية…

مع انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، أعلنت بريطانيا، إلى جانب أستراليا وكندا والبرتغال، اعترافها بدولة فلسطين في 21 أيلول/ سبتمبر الجاري.

يأتي ذلك ضمن موجة من الاعترافات المتتالية بفلسطين من قِبل دول غربية كبرى خلال العام الماضي. غير أنّ كثيرين من الفلسطينيين وأنصار قضيتهم يرون أنّ هذا الاعتراف يهدف في الأساس إلى منح هذه الدول القوية في الشمال العالمي، ذات التاريخ الكولونيالي البغيض، غطاءً للتنصل من اتخاذ خطوات حقيقية لوقف الإبادة المستمرة في غزة منذ عامين.

فالاعتراف بدولة فلسطينية، بينما تواصل هذه الحكومات بيع الأسلحة لإسرائيل والتعامل معها تجاريًا، يظلّ مجرّد إجراء شكلي بلا مضمون، فيما يُذبح عشرات، بل مئات الآلاف من الفلسطينيين في أول إبادة جماعية تُبثّ وقائعها في الزمن الحقيقي. وكما قالت كريستيان بنديكت، مديرة الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية: “الاعتراف مهم، لكنّه سيكون مجرّد إيماءة فارغة إن لم تسعَ بريطانيا أيضًا إلى إنهاء الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، واحتلالها غير القانوني ونظام الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني”.

إسرائيل، بدعم من الإمبريالية الغربية المتوحشة؛ الإمبراطورية الأميركية وحلفائها، تواصل سياسة تغيير الحقائق على الأرض عبر تنفيذ مزيج من التطهير العرقي في الضفة الغربية والإبادة الجماعية الهمجية في غزة، في تحدٍّ سافر للقانون الدولي، ولكل القيم الإنسانية.

لذلك فإن الاعتراف الرمزي بدولة فلسطينية لا يرقى إلى أولوية كبرى مقارنة بضرورة وقف الفظائع والإبادة وفرض عقوبات صارمة على كيان الإبادة، في مقدّمها حظر فوري على توريد السلاح. فكيف تعترف بريطانيا بدولة فلسطين، بينما تزوّد في الوقت نفسه الطائرات الإسرائيلية بقطع الغيار التي تُستخدم في سحق الفلسطينيين؟

من المفيد التذكير بالشروط التي وضعها الإجماع الوطني الفلسطيني، قبل أوسلو، كحدٍّ أدنى لأي حلّ يقوم على الدولتين:

الانسحاب الكامل للجيش الصهيوني والمستوطنين من جميع الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية.

الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، التي تحوّلت زمن الإبادة إلى مسالخ.

الاعتراف بحقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي طُردوا منها، وتعويضهم عن معاناتهم.

كانت هذه المطالب في الأصل الحدّ الأدنى للتسوية. أمّا أي كيان فلسطيني يُقام على رقعة جغرافية صغيرة في غزة أو جيوب متناثرة في الضفة، فلن يكون أكثر من نسخة موسّعة من “السجن الكبير” الذي حُشر فيه الفلسطينيون منذ 1967، مع تقلّص المساحة وعدد السكان بفعل الإبادة والتطهير. بل سيكون هذا الكيان قائمًا في إطار الدولة اليهودية، تحت حكم منظومة من الفصل العنصري، ومحرومًا من حق تقرير المصير والكرامة الإنسانية.

لقد كتبتُ سابقًا أن حلّ الدولتين كان “أفيونًا للشعب الفلسطيني”، لكنه لم يعد حتى كذلك. فهذا الحل عنصري بطبيعته، وذو طابع استئصالي، إذ يقوم على تقسيم الأرض وفق الهوية الدينية والعرقية: “فلسطين للفلسطينيين المسلمين والمسيحيين، وإسرائيل دولة لليهود فقط”. بل فاقت ممارساته الإبادية والاستئصالية الخيال. هل يمكن لشعب ناضل ضد الفصل العنصري أن يقبل بمثل هذا المبدأ؟

ما نحتاج إليه اليوم هو الانتقال إلى الهجوم: المطالبة بالتخلي عن هذا الحل العنصري الذي بات وهمًا قاتلًا، وتفكيك نظام الأبارتهايد الكولونيالي، وفتح الطريق أمام البديل الديمقراطي الوحيد — دولة علمانية ديمقراطية على كامل أرض فلسطين التاريخية، تضمن المساواة لجميع مواطنيها بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الجنس.

إن أي مسار آخر ليس إلا إهدارًا للوقت ولتضحيات من ناضلوا من أجل حقّنا في الوجود كشعب، بل تخليدًا للظلم، كما أنه يزرع بذور مواجهة قادمة قد تكون أكثر دموية وخطورة. المطلوب الآن استراتيجية تحرّر جديدة تتجاوز “استقلال العلم” الشكلي إلى تحرير حقيقي يضمن الحقوق الأساسية للفلسطينيين.

غزة اليوم قد تكون الشرارة التي تؤذن بولادة فلسطين جديدة تمتد بين النهر والبحر، تمامًا كما كانت جنوب أفريقيا ما بعد الأبارتهايد نموذجًا للتحوّل الديمقراطي.

لقد طُلب منّا طويلًا القبول بأقصى أشكال الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي: الإبادة، الفصل العنصري، الاحتلال، المستوطنات، الحواجز، الطرق المخصّصة، هدم المنازل، الاعتقال الإداري، التعذيب، الاغتصاب، والسجن الجماعي، فيما تُستهدف أجيال كاملة من الفلسطينيين برصاص قنّاصة يشلّون أجسادهم.

لكن زمنًا جديدًا قد بدأ، زمن تحوّل في الفهم والرؤية، ابتعاد عن منطق الانفصال والتقسيم، الذي يمثّله حلّ الدولتين – الذي لا ينتج سوى “بنتوستان” فلسطيني – تحوّل نحو وحدة فلسطينية شاملة وحقوق متساوية.

إن موجة الاعتراف الحالية بدولة فلسطين ليست إلا محاولة يائسة لإنعاش جثة حلٍّ مات منذ زمن. فجميع الحلول العنصرية البغيضة تؤول في النهاية إلى مزبلة التاريخ، ولكن للأسف بعد أن تكون قد استهلكت حيوات بشرية كثيرة، وموارد مالية، وصدمات نفسية عميقة.

إن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بين البحر والنهر، غير قابل للتفاوض. وقد حان الوقت لمطالبة المجتمع الدولي بإنهاء حصار غزة وتعويض الشعب الفلسطيني عن الدمار الذي لحق به جراء الجرائم الإسرائيلية، بعد أن انتهكت إسرائيل كل قانون دولي، بما في ذلك حظر الإبادة الجماعية.

أما من يواصل التمسك بحلّ الدولتين، من بعض الأكاديميين والساسة الإسرائيليين والأوروبيين، فهو يتجاهل الواقع القائم فعليًا: دولة أبارتهايد واحدة من النهر إلى البحر، يتمتّع فيها طرف بكامل الحقوق والمواطنة، وهو طرف غازٍ وفاقد للشرعية التاريخية والأخلاقية كونه مصرًّا على تفوّقه وهيمنته وأيديولوجيته غير الإنسانية والمتوحشة، بينما يُحرَم الطرف الآخر، صاحب الوطن، من أبسط حقوقه.

إن البديل واضح، ولن تجدي نفعًا المناورات التي تلتف على هذا البديل؛ إنه تفكيك منظومة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني برمّتها، وإقامة دولة ديمقراطية علمانية على كامل التراب الفلسطيني، دولة تُجسّد القيم التحرّرية الإنسانية، وترجمة لنضالات الشعب الفلسطيني الأسطورية، واستجابة للأصوات الإنسانية الهادرة في شوارع وميادين عواصم العالم الغربي، الأميركي والأوروبي، والجنوب العالمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب