مَن لم يقع في حبّ ديان كيتون؟

مَن لم يقع في حبّ ديان كيتون؟
هناك نوع من الممثلات يجعل التمثيل يبدو زينةً زائدة. هؤلاء لا يُؤدين، بل يتواجدن. وجودهن ذاته هو الأداء. ديان كيتون (1946 – 2025)، تنتمي إلى هذه الفئة التي لا تحتاج إلى أقنعة، بل إلى كاميرا تلتقط فقط.

هناك نوع من الممثلات يجعل التمثيل يبدو زينةً زائدة. هؤلاء لا يُؤدين، بل يتواجدن. وجودهن ذاته هو الأداء. ديان كيتون (1946 – 2025)، تنتمي إلى هذه الفئة التي لا تحتاج إلى أقنعة، بل إلى كاميرا تلتقط فقط.
في الجزء الأول من «العرّاب» (1972)، حين تنظر من الغرفة المجاورة لغرفة مايكل كورليوني (آل باتشينو)، وقد أدركت أنه لم يعد الرجل الذي أحبته، بل أصبح تجسيداً لما كانت تخشاه، كانت نظرتها كاشفة. عيناها لا ترمشان، لا تتوسلان، لا تتراجعان، تعلمان. فيهما صمت يصرخ، وحنان ينسحب. ليست نظرة امرأة خائفة، بل امرأة عرفت، وتأخّرت في الاعتراف.
الضوء على وجهها وسط عتمة مايكل، كان أول تمرّد صامت داخل الفيلم، لحظة إدراك أنّ الحب لا يكفي حين يُبتلع الإنسان بالسلطة. وجهها حين تخبره إنها أجهضت في الجزء الثاني من الفيلم، ليس ألماً، بل احتجاج، رفض أن تكون وعاء لإرثه، لسلطته، لأسطورته.
في «آني هول» (1977) لوودي آلن، تردُّدِها موسيقي، تتعثر، تضحك، تتملّص، تتشكك، تتوه، ثم تكتمل. تلعثمها، تعثرها ارتباكها الساحر، كلها ليست زلات، بل علامات، إشارات إلى هشاشة منعشة، إلى براءة، هي الشخصية التي كُتب لها، واستوحت من شخصيتها، كانت هي. رقيقة، رقّة تسلع. جميعنا وقعنا في حبها في وقت من الأوقات، وقعنا في الفراغات بين كلماتها، وحين تردد «La-dee-da, la-dee-da, la la».
كانت قادرة على أن تكون كلّ شيء. جعلتنا نؤمن بأن نكون على طبيعتنا، قد يكون الفعل الأكثر تطرفاً. إطلالتها كانت دائماً أنيقة، راقية، لكن من دون تكلّف. كأنها لا تعرف أنها جميلة، كأنّ الجمال اختارها من دون أن يُعلن نفسه. ابتسامتها؟ مزيج نادر من الطمأنينة والأسر. جمالها لا يُستعرض، بل يُلمح. لا يُفرض، بل يتسرّب. هي الحضور الذي لا يحتاج إلى شرح، والفتنة التي لا تطلب إذناً.
ببراعة آسرة، بطبيعية لا تُصطنع، وبحسّ فكاهي لا يُقلَّد، تركت كيتون بصمتها على حقبة سينمائية جديدة. لم يكن دورها وحده هو ما رسّخ حضورها، بل خزانة ملابسها أيضاً: أنيقة، غير تقليدية، كأنها تكتب بياناً بصرياً مع كل إطلالة. قال وودي ألن عنها: «كأنّ بونويل هو الذي يتسوّق لها شخصياً»، تشبيه لا يخلو من العبث والسوريالية. اتخذت كيتون خيارات أزياء جريئة، ألهمت جيلاً كاملاً من الفتيات لاستكشاف ملابس الرجال. حين تسلّمت جائزة الأوسكار عن «آني هول»، لم ترتد فستاناً تقليدياً، بل سترة وتنورتين من الكتان الكامل، ووشاحاً فوق قميص أبيض، وربطة عنق سوداء رفيعة، وحذاءً بكعب عالِ وجوارب.
كيتون، تحمل في ملامحها بقايا نشأة في الغرب الأميركي، لمحات من سانتا آنا في لوس أنجلوس، من طفولة بين الهندسة والتصوير، بين الأب الصارم والأم التي تُوّجت ملكة جمال ربات البيوت. ظهرت للمرة الأولى على الشاشة الكبيرة عام 1970، بدور زوجة شابة تعيسة في زواج يذبل في ضواحي المدينة.
لم تكن البداية صاخبة، لكنها كانت مشبعة بالوعود. ثم، بعد إطلالات تلفزيونية عدة، جاءت اللحظة الحاسمة: دور كاي آدامز في «العرّاب». امتدت مسيرتها لأكثر من نصف قرن، كانت متجددة في كل تحولاتها، تنتقل من الكوميديا إلى الدراما الثقيلة من دون تكلّف. في «البحث عن السيد غودبار» (1978)، غازلت الجنس بجرأة لا تخلو من هشاشة، مجسّدة امرأة تتنقل بين الرغبة والذنب. كانت تجسيداً للمرأة النيويوركية في «مانهاتن» (1979)، ناقدة أدبية حادة، ساخرة، مثقفة، لا تخشى أن تكون قاسية، ولا تخجل من تناقضاتها.
وفي «Something’s Gotta Give»، كانت كاتبة مسرحية تعيش وحدتها بشجاعة، وتواجه الحبّ من جديد بعد الخمسين. في الفيلم جمعت بين الذكاء والهشاشة والدعابة، وأعادت تعريف البطلة الرومانسية الناضجة.
رغم ظهورها في أكثر من 50 فيلماً، لم تكن تظهر يوماً في غير محلها. حتى في أسوأ افلامها الأخيرة، كان وجودها يكفي. لم تكن نجوميتها صاخبة، جسّدت أشكالاً متعددة من المرأة الحضرية الفريدة: ذكية، راقية، عالمية، نشيطة، فضولية، لكنها أيضاً متأثرة بشكوك الحياة العصرية وبانعدام أمنها.
سارت على الشاشة بهوية لا تتغير تقريباً، متجاوزة التغيرات الحتمية لكل مرحلة من مراحل دورة الحياة، من تلك الفتاة ذات التعبير المفاجئ والمنفتح، المتلهفة لاكتشاف كل ما أوحت به السبعينيات من ثورة في العادات، خصوصاً في الجنس والتحليل النفسي، إلى المرأة الناضجة التي استمرت في التساؤل عن الحب والقدر، متألقة بشعرها الرمادي الرائع وابتسامتها الجذابة.
على مدار السنوات، لم تكتف بالتمثيل. كتبت ما يقرب من 12كتاباً، عن الموضة، والفنّ، والعمارة، وعن ذاتها. مذكراتها ليست اعترافات، بل تفكيك ساخر للذات. كانت صريحة بشكل استفزازي، ساخرة متهكّمة وقاسية على نفسها، كأنها تكتب وتمثّل وتتكلم وتمشي وترقص لتفضح لا لتبرّر.