ثقافة وفنون

فيلم «12 رجلاً غاضباً»: الفكرة والأداء

فيلم «12 رجلاً غاضباً»: الفكرة والأداء

رامي أبو شهاب

غالباً ما يُنظر إلى الإبداع على أنه محاولة تشكيل الرؤية والصيغة بنمط مغاير، أو غير مسبوق، ومن هنا يكمن التحدي في البحث عن تلك الصيغ ومحاولة تمكينها في العمل، وقد يعمد البعض إلى التعقيد المبالغ فيه، أو محاولة تكريس أنماط من التقنيات الما-عالية، أو ربما يعمد البعض إلى محاولة الإفادة من عبقرية البساطة بهدف محاولة إحداث الأثر المطلوب، غير أن البساطة لا تعني السطحية، إنما تعني ذلك الوعي بالقدرة على استثمار الشكل، أو الأداة بأسلوب قادر على تعميق أصعب الرؤى أو الأفكار أو الرسائل.
من الأعمال السينمائية التي تمكنت أن تحفظ حضورها في السجل التاريخي للروائع السينمائية فيلم «12 رجلاً غاضباً» صدر سنة 1957 للمخرج سيدني لوميت، بطولة مجموعة من الممثلين، أبرزهم هنري فوندا، وعلى الرغم من أن الفيلم قد رُشح لثلاثة جوائز أوسكار، ولم ينل أياً منها، غير أن قيمته بقيت كامنة في وعي المشاهدين، والنقاد، ليبقى أحد أهم الأعمال التي شكلت مرجعية في الأداء والتشكيل في الأكاديميات الفنية.

سينما التغاير

ينهض الفيلم في المقام الأول على الدهشة التي تتأتى من اختيار العنوان بوصفه نمطاً أسلوبياً يبعث المشاهد على التساؤل عن كنهه، مع شيء من التوقع عن هذا التكوين، وما يكمن خلفه من تصورات مسبقة قد تميل إلى أن الفيلم معني بتجليات من العنف أو الانتقام أو شيء من هذا القبيل، غير أن الفيلم يخالف كل التوقعات، أو بعبارة أخرى يخالف كل توقعات المشاهد المتصلة بمعايير السينما (الجماهيرية) التي تعني في الذاكرة ذلك الاتساع في الأبعاد المكانية والزمانية، كما قيم التوتر، والتصاعد، ناهيك من فتح زاوية الرؤية على المستوى البصري، وغير ذلك من متعلقات تتصل بالمتعة القائمة على الفرجة بوصفها غاية سينمائية مركزية، ولكن يبقى هذا التساؤل: هل في غياب كل هذه العناصر يمكن أن يحقق الفيلم حضوره أو قيمته أو أثره بمعزل عن هذه العناصر؟

يمكن اختزال الفيلم بقصته البسيطة ظاهرياً، والتي تتلخص بمحاكمة مراهق متهم بقتل والده، وعلى هيئة المحلفين التي تتكون من اثني عشر رجلاً أن تبحث القضية، وأن تخرج بخلاصة واحدة تتصل بأن هذا المتهم مذنب أو غير مذنب، ولكن بعد الاطلاع على حيثيات المحاكمة، وحضور جلساتها. يجتمع الرجال في قاعة صغيرة بعض الشيء في يوم حار، في حين أن خلفيات هؤلاء الرجال تتباين من حيث العمر، والوظيفة، والعمل، كما المرجعية المتصلة بكل واحدٍ منهم، فيما يتعلق بالطفولة، والخبرة، والواقع المعيشي الحالي، وعلى هؤلاء الرجال أن يلتزموا بمعايير المحكمة التي تتصل بالاطلاع على الأدلة، واستحضارها، بالتوازي مع الالتزام بالوقت، والإجراءات المتبعة في حال التوصل لحكم أو عند عدم التوصل لحكم، والذي ينبغي أن يكون بالإجماع، وفي حال عدم تحقق ذلك يطرأ عن ذلك برتوكول آخر.
للوهلة الأولى قد نتوقع أن يحجم المتلقي عن الاستغراق أو تلمّس المتعة في مشهدية «12 رجلاً غاضباً» في غرفة واحدة، يتداولون قضية قتل، إذ يبدو الأمر أقرب إلى فعل نمطي؟ يتوقع أن الأمر في النهاية لا يعدو كونه محاولاتٍ للتفكير بالقضية من أجل الخروج بحكم – مذنب أو غير مذنب- وعلى ذلك فإن أفق توقع الفيلم يبدو مرتهناً أو مكشوفاً من لحظة البدء، أو التشكّل للسردية المتصلة بالقصة، غير أن قدرة المخرج على تجاوز هذه البساطة الظاهرة، أو الاختزالية من ناحية تشكيل المشهدية، ولاسيما عند افتتاح الجلسة عبر رئيسها حول طرح السؤال الجوهري، الذي يمكن أن يختزل الوجود برمته: هل تعتقدون أن الفتى مذنب أو غير مذنب، بناءً على الحيثيات المتصلة بالمحكمة؟ مع التذكير بأنها تبدو جلية وواضحة، ولا تحتاج إلى الكثير من المداولات، في حين أن كل واحدٍ منهم يبدو متصلاً بما هو خارج القاعة، ولاسيما بعض الرجال الذين يأملون أن ينتهوا من المداولة سريعاً كي يخرجوا لعالمهم الخارجي، بكل ما فيه من اضطراب، أو متعة، ومن ذلك مشاهدة مباراة رياضية، كما أن معظمهم لديهم في ماضيهم تجارب وخبرات يمكن أن تلقي ظلالها على المحكمة تبعاً لتجربتهم وخبرتهم.
من خلال التصويت الأول يتوافق أحد عشر رجلاً على أن الفتى مذنب باستثناء رجل واحد، وهنا تتحقق قيمة فلسفية تنهض على أن الوعي والإدراك لا يتوافقان دائماً؛ فثمة أمرٌ ما هنا يطلقه الرجل المعترض، أو الرجل الذي يبدد الكامن في التفكير، ويطلق شرارة الشك الأولى؛ من منطلق أن ثمة حياة على المحك تتطلب من المجتمعين مناقشة الموضوع بعمق، وعدم الانجرار إلى التعميم والأفكار المسبقة. ومن هنا يبدأ بزحزحة الوعي لدى البعض، في حين يعارض آخرون، بيد أن دائرة النقاش تتسع، وتنقسم الآراء، وتتحول الجلسة إلى مشاداتٍ كلامية، مع اشتباكاتٍ بسيطة وسريعة بين الرجال، الذين يبدون غاضبين أو محتقنين بدوافع لا تتعلق بالمحاكمة، إنما كونها تكمن في اللاوعي. وشيئاً فشيئاً يبدأ الوعي بأدوات المنطق والأدلة التي تُختبر، فيظهر أنه على الرغم من بداهة الأدلة، وتقبلها إلا أنها لا تقدم إثباتاتٍ حقيقية على أن المراهق قام بقتل والده العجوز، وهنا نرى أن التفكير في ما نعتقد بوجوبه يشكّل أحد أهم أدوات الوصول إلى الحقيقة، وهي صيغة تتعلق فيها قيم الوعي بالتفكير النقدي، أو خارج تفكير الجماعة، وما يكمن أحياناً من تقاطعات مع جوانب إنسانية، فالحكم على الشيء لا يستجيب فقط للظواهر إنما يحتاج لأداة كافية، ولاسيما حين يتعلق الأمر بحياة شخصٍ ما.

الاستعارة السينمائية

يرى تريفور وايتوك تقنية الاستعارة – في كتابه «الاستعارة في لغة السينما» – بوصفها أقرب إلى فعل إحلال تتجاور فيه العناصر البصرية كي تتبادل خصائصها، وهكذا تتحول الصورة إلى فضاء قادر على توليد المعنى الفكري؛ من مبدأ الاعتماد على النموذج الكلي للإدراك، ولاسيما من لدن المشاهد أو المتلقي، ومن ذلك عناصر متعددة تعمل معاً، ومن ذلك الإطار الزمني المتصل بالمحاكمة، إذ نرى أن الوقت يبقى جزءاً من فلسفة الفيلم، فالمشاهد المحاصر بالوقت يمضي بالمناقشات والتأملات وممارسة التحليل مع المجموعة التي تستشعر ضيق المكان، والتبرم من الحر، واضطراب الإضاءة، لتغدو الغرفة استعارة العالم، وما يكمن فيه من طبائع البشر: الغضب، والهدوء، والمنطقية، والعنصرية، والنزق، والأخلاقية، كما إشكالية التربية، وقسوتها، وغير ذلك، إذ يمسي مجمل ما سبق كناية عن جدل الضمير الإنساني، غير أن هذا يجب ألا يؤثر على مصداقية الحكم بمقدار ما يهدف إلى بيان تعقيد النفس البشرية.
وهكذا تمضي المداولات التي تنهض على حوارات مكتوبة بعناية، فتعلق المشاهد بالحوارات، يطلق طاقات من التفكير، والترقب، وطرح الأسئلة، والأهم أن يعلق بالتفكير للبحث عن حقيقة ما يجري. وهكذا تمضي المداولات حتى نرى أن الأدلة التي كانت سبباً لإدانة المراهق قد بدأت تتهاوى، غير أن البعض ما زال يصرّ على موقفه بدافع الغضب الكامن في لا وعيه من تجربةٍ سابقةٍ تتصل بموقفه من الأبناء أو المراهقين، أو نتيجة الإنكار المتصل بالأنا، والغرور، أو بالرغبة بالتخلص من المحاكمة، والعودة إلى ما هو خارج المحكمة، غير أن الوعي بعلاقات الأشياء يبدد كثيراً من قناعات الرجال، حيث يبدأ التحول في الحكم من مذنب إلى غير مذنب شيئاً فشيئاً، حتى ينتهي إلى أن الاثني عشر رجلاً توافقوا على أن المراهق غير مذنب.
تكمن قيمة الفيلم في كونه يسعى إلى خلخلة الرؤية التي تكمن داخل البشر، أو الإنسان الذي قد ينساق وراء آراء المجموع، دون أن يعطي نفسه فرصةً للتأمل بحقائق الأشياء، وقيمتها. وفي ظني أن هذا الفيلم امتلك تلك التركيبة من الأفكار التي يمكن نقلها إلى الفرجة السينمائية بغية تحقيق مصداقياتٍ لا يمكن أن نتوقعها دون هذه المشهدية، التي تمكّن من خلالها المخرج من إحداث شرخٍ في وعي كثيرٍ منا، بل إن هذا الوعي سوف يبقى ممتداً في ثقافة الإنسان وتركيبته عند استحضار موقف مماثل.

وظيفة التشكيل الفني

على مستوى التشكيل الفني، فإن الأداء الذي قدّمه الممثلون في الفيلم لا يمكن وصفه إلا بأنه مغاير عن السواد الأعظم من الأفلام، إذ لم تتملكه أي صيغةٍ من صيغ الإثارة في ظل غياب العنصر النسائي، وكلاسيكية العاطفة بوصفها جاذباً، ناهيك عن الحركة، والتعقيدات المبنية على حبكة أو قصة متشابكة، وما يعوض ذلك عمق الفكرة، ومفردات التشكيل المكاني، وحركة الكاميرا، والحوار، كما الأداء الذي يأتي ضمن سوية عالية ومتسقة بين الممثلين، حيث عمد مخرج الفيلم إلى اختزال ذلك في كياناتٍ بشريةٍ تجلس حول طاولة، ضمن حيزٍ ضيق لتحكم على حياة إنسان فحسب.
من أجل تفعيل التقنيات الأدائية في تحقيق هذه الغايات، فالغرفة هي المسرح الذي يُعاد فيه نقض القناعات، تلك الدينامية الفكرية التي تبغي تفعيلها، ولكن بعمق العقل البشري بما فيه من تعقيد، فيُحال هنا المكان إلى كنايةٍ عن العقل الكلي، أو الجمعي، أو عن كيفية التفكير، على الرغم من التباين، في حين تمارس الكاميرا رصد هذا المخاض ضمن زوايا متعددة تبدأ من الأعلى وتنتهي إلى الأسفل، كي تحيط بكل ما يمور داخل الغرفة، وما يكمن فيها من عقولٍ وضمائر وتوتر. وعلى هذا يبدو المكان معادلاً موضوعياً لهذا المستوى، وهذا ينعكس على توترات الضوء الناتجة عن النافذة، وتحول الجو، وبذلك ثمة محاكاة لما يفكر فيه، أو ما تستشعره كل شخصية، فالتحول في الجو الخارجي، يبدو جزءاً من هذا الامتداد القَلِق، وفي النهاية فإن التحول يأتي ليمارس اتصاله بدواخل الشخصيات التي تتنفس شيئاً فشيئاً، وتتخفف من وطأة المسؤولية، فهذه اللحظات تعني تعالي الوعي بالضمير، بالتجاور مع انبعاث الصوت الإنساني الذي يمكن أن نحيّده في لحظة ما بداعي انشغالات الحياة.
لا يمكن إلا الإقرار بقدرة المخرج على أن يغادر منطقة الأمان التي يفضلها بعض المخرجين، وعلى أن يراهن بتقديم فيلم مختلف بصورة جذرية عن السائد، وأن يتجاوز متطلبات المشاهدين الآنية، بما في ذلك التسلية أو الإمتاع، بوصفها وظيفة محورية في السينما بالتجاور مع وظائف أخرى، ومن هنا يمكن القول، إن هذا الفيلم قد يعادل في تأثيره الفكري الكثير من الكتب، وربما سنوات طويلة من التعليم للتعرف عن معنى العدالة، وأنساق التفكير، وكيف يمكن أن ترى العالم من زاويا جديدة.

كاتب أردني فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب