رئيسيالافتتاحيه

غزة بعد وقف النار: الفوضى المستمرة وسلطة الاحتلال

غزة بعد وقف النار: الفوضى المستمرة وسلطة الاحتلال

بقلم رئيس التحرير 

لم يوقف وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر 2025 الحرب على غزة بالمعنى الحقيقي، بل غيّر شكلها إلى حرب صامتة على مقومات الحياة. فبينما خفّ القصف المباشر، استمرت إسرائيل في تقنين دخول المساعدات الإنسانية، وإغلاق المعابر، ومنع الأدوية والمعدات الثقيلة بذريعة الاستخدام المزدوج، مع دعم ميليشيات مسلحة لتعميق الفوضى، في محاولة لتحويل فشلها العسكري إلى مكسب سياسي واستراتيجي.

منذ إعلان الهدنة، دخلت غزة شحنات محدودة من الغذاء والدواء والوقود، لكن هذه الكميات لا تكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية. بحسب اليونيسف وOCHA، لم تتجاوز الشاحنات المسموح لها الدخول 300 يوميًا، نصف الحد الأدنى المطلوب، بينما تبقى شمال القطاع شبه معزول، ما يجعل المستشفيات والمراكز الصحية عاجزة عن تقديم الرعاية اللازمة، خصوصًا للأطفال والمرضى المزمنين.

المستشفيات الكبرى — الإندونيسي، كمال عدوان، والعودة — تعمل جزئيًا أو توقفت تمامًا، بسبب نقص الوقود والمستلزمات الطبية، فيما يعيش الأطباء تحت التهديد المستمر. وتعكس بيانات الأونروا واليونيونيسف ارتفاع معدلات سوء التغذية بين الأطفال إلى مستويات قياسية، مع أكثر من 500 ألف شخص يعيشون في ظروف المجاعة، ونحو 650 ألف طفل محروم من التعليم.

تعتبر هذه السياسات امتدادًا لاستراتيجية إسرائيلية طويلة المدى تقوم على الفوضى المنظمة كأداة للسيطرة. فكلما فشلت القوة العسكرية في كسر إرادة الفلسطينيين، لجأت إلى تعطيل الحياة المدنية وإبقاء القطاع رهينة للحصار، مع منع إعادة البناء وخلق بيئة لا يمكن فيها لأي سلطة فلسطينية استعادة زمام الأمور.

إضافة إلى ذلك، تشير تقارير محلية ودولية إلى أن الاحتلال يدعم أو يغض الطرف عن نشاط مجموعات مسلحة داخل القطاع، بهدف تعزيز الفلتان الأمني ومنع أي انتظام إداري أو اجتماعي. هذا الأسلوب يكرر ما حدث في الضفة الغربية بعد عام 2005، حيث استُخدمت الفوضى لتفتيت النسيج الاجتماعي والسياسي، وتحويل الفلسطينيين إلى كيانات مشتتة، بلا قدرة على الاستقرار أو المقاومة المنهجية.

النتيجة هي قطاع يعيش إبادة بطيئة تحت غطاء وقف النار، حيث تصبح الفوضى وسوء الخدمات والأزمة الإنسانية أدوات استمرار السيطرة، بدلًا من الحرب المفتوحة. فالسيطرة هنا تتحقق عبر الإبقاء على القطاع هشًا، اقتصادياً واجتماعياً، وحرمانه من أدوات التعافي.

على الرغم من هذه السياسات، يثبت الغزيون مجددًا أن إرادتهم أقوى من الجوع، وأعمق من الدمار، وأشد صلابة من أي فوضى مصنوعة. لكن الصمود وحده لا يكفي، فالمجتمع الدولي يتحمل مسؤولية مباشرة في فتح المعابر، رفع القيود عن الأدوية والمعدات، وضمان وصول المساعدات بشكل كامل وآمن، وإلا ستبقى غزة مسرحًا للحرب بصيغتها الإنسانية المستمرة.

في الواقع الجديد، يصبح وقف النار مجرد إطار زمني مؤقت، بينما الفوضى المنظمة والتحكم في الحياة اليومية هي استراتيجة الاحتلال الحقيقية لتحقيق أهداف ما بعد الحرب. وهنا تكمن المعركة الحقيقية: إرادة الفلسطينيين مقابل سياسات الإبقاء على العجز والاعتماد القسري، حيث يكمن تحدي اليوم القادم في القدرة على إعادة الحياة المدنية، ومواجهة مشروع السيطرة بالوعي والصمود المستدام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب