الافتتاحيهرئيسي

الفاسدون لا يبنون وطنًا… إنما يبنون لذواتهم

الفاسدون لا يبنون وطنًا… إنما يبنون لذواتهم

بقلم: رئيس التحرير 

بين بناء الدولة وتشييد الذات

لم تُبنَ دولة في التاريخ على أسس متينة إلا حين وضعت الشفافية والنزاهة في صلب مشروعها الوطني.

أما حين يتسلل الفساد إلى مفاصل الحكم، فإنه لا يكتفي بنهب المال العام، بل ينهش روح الوطن ويُسقط قيم الانتماء.

فالفساد ليس مجرد ظاهرة مالية أو إدارية، بل هو بنية فكرية ونفسية تتغذى على الأنانية واستغلال السلطة، ليغدو الوطن عند الفاسد وسيلة لتحقيق الذات لا غاية للبناء الجمعي.

الفساد وتآكل فكرة الدولة

يقول المؤرخ البريطاني اللورد أكتون: “السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد فسادًا مطلقًا.”

هذه المقولة ليست وصفًا أدبيًا بل قاعدة تاريخية تكررت في سقوط دول كانت في ذروة قوتها.

حين تتحول مؤسسات الدولة إلى أداة لحماية الفاسدين، تذوب الكفاءات، وتُقصى العقول، وتصبح الولاءات الشخصية بديلاً عن المواطنة، والمال معيارًا للنفوذ بدلًا من العطاء الوطني.

وقد أشار المؤرخ الأمريكي ويليام ديورانت في موسوعته قصة الحضارة إلى أن:

 “الأمم لا تُدمّر من الخارج إلا بعد أن تكون قد نُخرت من الداخل بالفساد والترف وسوء الإدارة.”

الفساد إذًا ليس خطأً عرضيًا، بل مرضٌ بنيويّ يقوّض فكرة الدولة من جذورها.

الفاسدون يبنون لذواتهم لا للأوطان

الفاسد لا يرى في الوطن سوى مشروعٍ خاصّ لتضخيم ذاته.

يشيّد قصورًا من أموال الناس، ويقيم مجده على أنقاض كرامتهم.

وفي هذا السياق قال جبران خليل جبران:

 “ويلٌ لأمةٍ يكثر فيها الفاسدون وقلّ فيها الأحرار، ويُكرَّم فيها المتسلّقون ويُهان فيها المخلصون.”

الفاسد لا يصنع مؤسسات بل شبكات نفوذ.

يبني حول نفسه دائرة من المنتفعين تحميه، ويظن أنه بذلك يُحكم قبضته على الوطن، بينما هو في الحقيقة يُفكك بنيانه من الداخل

الأوطان تُبنى بالمخلصين لا بالانتهازيين

الدول التي نهضت بعد دمار الحروب، مثل اليابان وألمانيا، لم تُبنَ بالخطابات ولا بالمحسوبيات، بل بضمير وطني جمعي قاده المخلصون والنزيهون.

كتب الفيلسوف الألماني أوسفالد شبينغلر في أفول الغرب:

 “حين يتسلل الفساد إلى القيم، تتحول الحضارة إلى شكلٍ بلا روح، وعندها يبدأ العدّ التنازلي لسقوطها.”

النزاهة إذن ليست فضيلة فردية فحسب، بل شرطٌ لبقاء الأمة.

فحين تغيب الثقة بالمؤسسات، تنهار شرعية النظام، وتصبح الدولة هيكلاً بلا روح.

الفساد في التجربة العربية: من الدولة إلى الملكية الخاصة

الواقع العربي المعاصر حافل بأمثلةٍ لدولٍ تحولت مؤسساتها إلى إقطاعياتٍ سياسية واقتصادية بسبب استشراء الفساد.

تُستغل الموارد العامة لمصالح خاصة، وتُدار الوزارات كأنها شركات عائلية.

وفي هذا قال المفكر مالك بن نبي:

 “لا تُبنى الحضارة إلا على الأخلاق، ولا تنهض إلا على ضمير حيّ، أما حين يموت الضمير فكل بناءٍ ماديّ يتحول إلى رماد.”

إن الفساد لا يُدمّر فقط بنية الاقتصاد، بل يُضعف روح الانتماء ويقتل الإبداع، ويفتح الباب أمام الانقسام الاجتماعي والتبعية السياسية.

مواجهة الفساد: معركة وعي قبل أن تكون قانونًا

مكافحة الفساد لا تُختصر في تشريع القوانين، بل تتطلب ثورة أخلاقية وثقافية تعيد الاعتبار لقيمة العمل والمسؤولية والمساءلة.

يقول المفكر الفرنسي ألكسي دو توكفيل في الديمقراطية في أمريكا:

 “ما من قانون يمكن أن يصون الحرية إذا لم يكن في روح الناس إيمان بالمسؤولية.”

فالوعي الشعبي هو خط الدفاع الأول ضد الفساد.

وحين يصمت المواطن عن المطالبة بحقه، يتضخم نفوذ الفاسد ويترسخ فساده.

الفاسدون يصنعون دولة الخوف

الفاسد يدرك أن بقاءه رهنٌ بإسكات النقد، فيسعى لتكميم الأفواه وتطويع القضاء والسيطرة على الإعلام.

حينها تُقلب المعايير: يُتهم الشرفاء بالتخريب، ويُكرم المنافقون بالولاء، وتُستبدل الكفاءة بالطاعة العمياء.

كما قال المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد:

 “السلطة حين تخشى المثقف، فهي تعرف أنه الوحيد القادر على كشف فسادها.”

الوطن لا يُبنى بالولاءات بل بالكفاءات

الوطن ليس غنيمة، ولا منصبًا، ولا وسيلة للتكسب، بل هو أمانة ومسؤولية تاريخية.

الدولة التي يسودها الفاسدون لا تبني مؤسسات، بل تجهز مقابر لأحلام الأجيال.

الإصلاح الحقيقي لا يبدأ بتبديل الوجوه، بل بإعادة بناء منظومة القيم والمحاسبة.

الوطن يبنيه من يزرع شجرةً في ترابه لا من يسرق جذورها، ومن يترك أثرًا في الأجيال لا من يترك حسابًا في المصارف.

وكما قال محمد الماغوط:

 “الوطن ليس فندقًا نغادره حين تسوء الخدمة، بل بيتٌ نحاول إصلاحه مهما كانت الأعطال.”

خاتمة القول

الفاسدون لا يبنون وطنًا، لأنهم ببساطة لا يؤمنون بفكرته.

يبنون لأنفسهم، ويهدمون في الناس ما تبقى من الحلم.

أما الأوطان، فلا يرفعها إلا المخلصون الذين يضعون ضميرهم فوق مناصبهم، ووطنهم فوق ذواتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب