ثقافة وفنون

تأملات في العبودية المختارة

تأملات في العبودية المختارة
محمود الجاف

منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض وهو يتأرجح بين حلمين متناقضين : الحرية التي يخافها لأنها تحمّله مسؤولية اختياره، والعبودية التي يأنس بها لأنها تريحه مؤقتًا من عناء التفكير. وهكذا عبر التاريخ، لم يكن الطغاة وحدهم من صنعوا الاستبداد، بل الشعوب التي منحتهم الشرعية وصنعت لهم العرش من صمتها وخضوعها. لقد فهم الفيلسوف الفرنسي إيتيان دو لا بويسيه هذه المأساة قبل خمسة قرون حين كتب :

” إنهم لا يُستعبَدون إلا لأنهم يقبلون العبودية ” .

ومن هنا تبدأ الحكاية الأبدية : شعوبٌ تئنّ من الظلم، ثم تصوّت للظالم ذاته.

فرعون وعبيد المعجزة..
في مصر القديمة، لم يكن فرعون طاغية بالقوة وحدها، بل بالمحبّة المريضة التي زرعها في قلوب الناس. بنوا له المعابد، وهتفوا باسمه، وعبدوه كإله. وعندما غرق، كان يظن أنه ربّهم الأعلى. مأساة المصريين لم تكن في الطغيان ذاته، بل في القداسة التي منحوها للطاغية. وهذه القداسة ما زالت تعيش فينا حين نرى زعيمًا يسرقنا فنبرّر له أو نخاف من انتقاده بحجة الحفاظ على “هيبة الدولة “.

إيران بين الشاه والثورة..
سقط نظام الشاه عام 1979 وظنّ الناس أنهم دخلوا عصر العدالة، لكنهم استيقظوا بعد سنوات على نظام جديد يفرض عليهم طاعة أخرى هذه المرة باسم الدين. فالتغيير الشكلي لا يغيّر جوهر السلطة إن بقي الخوفُ في النفوس والوعيُ في الأسر .

ألمانيا وهتلر..
قد يُقال إن الجهل يصنع الطغاة، لكن ألمانيا كانت من أكثر شعوب الأرض علمًا وثقافة. ومع ذلك، أوصلت هتلر إلى الحكم عبر صناديق اقتراع نزيهة. منحوه شرعية ديمقراطية ليقتل باسمهم العالم، وكانوا يؤمنون أنه المنقذ الذي سيعيد مجدهم بعد الهزيمة، فاستيقظوا ليجدوا أنفسهم في رماد صنعته أيديهم. وهكذا يتكرّر السؤال الأبدي :

لماذا نبحث عن “المنقذ” لا عن النظام الذي يمنع الطغيان؟

الصين وماو..
في الصين، مات الملايين في مجاعات صنعها الزعيم ماو تسي تونغ، ومع ذلك كان الناس يرفعون صوره في كل شارع ويهتفون باسمه. ولم يكن ذلك غباءً، بل نتيجة تربية إعلامية جعلت الزعيم فوق الحقيقة. إنه الوعي المصنَّع الذي يحوّل الجلاد إلى أبٍ رحيم في نظر ضحاياه.

العراق والمشهد المكرَّر..
وها هو العراق بكل جراحه يكرّر المشهد ذاته، شعبٌ أنهكته الحروب والسرقات ثم يعود لينتخب الوجوه نفسها ويمنح الشرعية لمن نهبه وحوّله إلى ضحية. قد يكون الدافع خوفًا أو طائفية أو بحثًا عن أمانٍ زائف لكن في النهاية هو اختيار طوعي للعبودية. فالاستبداد لا يعيش إلا حين يتحوّل الخوف إلى عادة والعادة إلى قناعة والقناعة إلى صنم انتخابي نعبده كل أربع سنوات .

إن فرعون حين غرق، لم يغرق وحده، بل غرق معه وعي قومٍ عبدوه. ولعلّ الله قصّ علينا قصته لنفهم أن الطغيان لا يعيش بلا مؤمنين به. فكل طاغية يولد من رحم الخضوع، وكل جلادٍ يعتاش على أصوات المصفّقين له. وما دامت الشعوب ترى في الحرية فوضى، وفي الطغيان أمانًا، فستظلّ تعيد كتابة نفس القصة القديمة :

فرعون يتبدّل اسمه، لكن القوم يقفون على الشاطئ ذاته، ينتظرون معجزة لا تأتي، لأن البحر لا ينشقّ إلا للأحرار .

يبقى السؤال الأخير :

لماذا تُعيد الشعوب الخطأ ذاته وكأنها لا تتعلّم؟

الجواب ليس في الجهل وحده، بل في الطبيعة البشرية نفسها. فالناس حين يمنحون أصواتهم لأحد، لا يرون أبعد من رغيفهم . ينظرون إلى الأمان اللحظي لا إلى المصير البعيد . يفكرون كما يفكر العاشق الغِرّ، الذي يحتضن معشوقته في لحظة رغبة عمياء، وهو غير مدرك أن لذّة اللحظة قد تفتح عليه باب ندمٍ طويل.

إن الشعوب التي تضع رغبتها فوق وعيها تُكرّر الفعل الغريزي ذاته في كل دورة انتخابية، فتُسلّم مصيرها لمن يُسكِتها بخطاب أو يُخدّرها بوعد. وهكذا تدور الحلقة الأبدية :

يأتي فرعون جديد، يغرق من بعده، ثم يولد فرعون آخر من رحم الخضوع ذاته . ولعلّ خلاص الأمم لا يكون حين تسقط طغاتها، بل حين تتعلّم أن تؤجِّل رغبتها لحظة لتُنقذ مستقبلها كله . فالحرية لا تحتاج إلى شجاعة فحسب، بل إلى بصيرةٍ ترى ما وراء اللذّة، ووعيٍ يدرك أن القرار الذي يُرضينا اليوم قد يكون المسمار الذي نُغلق به نعش الغد.

كلنا نعلم أن الموت نهاية حياتنا، ومع ذلك نعصي الله. إنه النسيان الذي يفقدنا عقولنا، فنُشبع رغبة أو نلحق لذّةً مؤقتة وننسى المصير. ولهذا قال إبليس كما جاء في القرآن الكريم :

﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ابراهيم 22 .

الحرية ليست هدية تُمنح، بل وعيٌ يُكتسب وثمنٌ يُدفع . وما لم تتغيّر الشعوب من داخلها، فإن الطغاة سيغيّرون أسمائهم فقط .

أما المسرح فسيبقى هو ذاته .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب