ثقافة وفنون

الفن التشكيلي في زمن الذكاء الاصطناعي: صراع أم تكامل بين الإبداع الإنساني والخوارزميات؟

الفن التشكيلي في زمن الذكاء الاصطناعي: صراع أم تكامل بين الإبداع الإنساني والخوارزميات؟

نادية بولعيش

أصبح الذكاء الاصطناعي حاضرا في مختلف مناحي حياتنا ويمتد تأثيره إلى المجال الإبداعي، يساعد الكاتب والروائي على تحسين أسلوبه ومتانة السرد وبناء حبكة أكثر جاذبية وعمقا، ويحضر في الفنون الجميلة بما فيها النحت ليجعلنا أمام تحد كبير حول المفهوم الفلسفي والفني للإبداع الآن وفي المستقبل، ويدفعنا للبحث عن أدوات جديدة لرؤية جمالية الفنون.
ومن خلال قراءتنا لتاريخ الفنون الجميلة وخاصة شعبة التشكيل أو التصوير، نقف على توالي المدارس الفنية من الرسم الكلاسيكي الواقعي إلى الانطباعية ثم التجريد. وكان المحرك الأساسي هو إبداع الفنان في البحث عن أشكال تعبيرية جديدة يتجاوز بها ما هو سائد وما ألفه الناس ويمنحه التميز والتفرد. وعادة ما رافق الابتعاد عن المألوف والتفكير في الجديد موجة من النقد الرافض والاستغراب. وتعد تجربة الانطباعيين المثال الحي، حيث قام نقاد وفنانون بتبخيس أعمال فنانين من حجم رينوار وفان جوخ، لتصبح لوحاتهم مع مرور الوقت الأغلى والأجمل وتجربة رائعة في تاريخ الفن التشكيلي.
والعلاقة بين الفن والتطور التكنولوجي ليست وليدة اليوم، فهي قديمة، غير أنها تفرض نفسها بقوة الآن بسبب ما يحمله الذكاء الاصطناعي من تحد حقيقي يبهرنا ويجعلنا نتساءل عن معنى الإبداع الحقيقي.
عندما ظهر التصوير الفوتوغرافي، أصبح الفنان قادرا على تسجيل لحظات من أجواء الحياة، وإن بدت الصورة جامدة فهي في العمق عملية القبض وتسجيل لحظة من الحياة تقدم الفرح أو الحزن أو الغضب أو مشهد عام لحدث تاريخي. وكم من فنان استعان بالتصوير الفوتوغرافي لكي يعيد رسم تلك اللحظة من الحياة بكل تفاصيلها في شكل لوحة تشكيلة وكأننا أمام عملية الترجمة بين الفنون. وكم من فنان استعان بآلة العرض الضوئي لإعادة رسم مشهد معين أو شخصية معينة، وإن كانت هذه العملية تثير الجدل لافتقادها الشرط الفني وفق الكثير من النقاد. والآن، وأمام توظيف الذكاء الاصطناعي في الفن التشكيلي نصطدم بتحديات لم تكن منتظرة حتى الأمس القريب، هل نحن أمام إبداع خالص يصدر عن الفنان أو بشريك في العملية الإبداعية؟ ومن خلال تتبعنا لتوظيف الذكاء الاصطناعي، نقف على مسارين من الصعب التفريق بينها، وهما:
في الحالة الإبداعية الأولى وهي في متناول الجميع بدون استثناء، نطلب من الذكاء الاصطناعي إنشاء لوحة فنية، إما بعنوان فضفاض مثل «صورة لشارع في نيويورك خالي من المارة» أو «مشهد من شارع في لندن يوحي بالنشاط وأجواء أعياد الميلاد بأسلوب انطباعي»، وهي الصورة المنشورة في هذا المقال، لم يستغرق الأمر أكثر من 30 ثانية للحصول عليها. وإذا كان لدينا اشتراك في أي برنامج من برامج الذكاء الاصطناعي مثل «ديفبروش» بدل البرامج المجانية، تكون النتيجة أدق تقنيا وعددا لأنه يسمح بتجارب أكبر. ويكون الفنان في هذه الحالة أو من يقف وراء الحاسوب أو الهاتف بدون دور كبير باستثناء كتابة جملة أو جملتين لكي ينفذ الذكاء الاصطناعي الطلب.
في الحالة الإبداعية الثانية، يختلف الأمر نسبيا، حيث تظهر بصمة الفنان خاصة إذا كان متمكنا من التعبير اللغوي ودقة الوصف وخلق عوالم خاصة به ورؤية فلسفية وحاملا لمشروع فني. وهنا يبدأ الفنان بكتابة نصوص تحمل فكرة وتصورا ورؤى لموضوع اللوحة ونوعية الرسم، ويبدأ الحوار الفني مع الذكاء الاصطناعي، حيث تصبح المبادرة لدى الفنان بينما برامج الذكاء الاصطناعي تنفذ، يغير الفنان الألوان، يغير الخطوط ويتحكم في مشاعر الشخصية.
وهنا الفنان يبني اللوحة على شاكلة الحوار الذي يدور بين مخرج المسرحية وصانع ديكور المسرحية أو المخرج السينمائي والمسؤول عن الديكور. وفي هذه الحالة، نقدم لوحة هي نتيجة ما نعتبره حوارا مع برنامج الذكاء الاصطناعي، إذ طلبنا منه صورة لمدينة القاهرة بأسلوب سوريالي وكأنه من إنتاج سالفادور دالي زوجناه بتفاصيل كثيرة، وبعد عدة محاولات وكانت النتيجة هي هذه اللوحة المرافقة للمقال.
لم ينل الفن التشكيلي بالذكاء الاصطناعي بعد على شهادة الاعتراف من طرف النقاد، فعادة ما يكون النقد الفني في جوهره متحفظا وحذرا أمام كل جديد، لاسيما في ظل تساؤله الدائم عن المفهوم الحقيقي للإبداع. وتاريخ النقد الفني هو تاريخ التردد، لا يقبل بمدرسة جديدة أو تيار جديد في مجال الفن إلا بعد أن يترسخ ويثبت مكانته ويأتي جيل جديد بقيم ومفاهيم جمالية مختلفة نسبيا. ودائما يسعفنا مثال مدرسة الانطباعية وكيف تعامل معها النقاد بتبخيس إلى مستوى أن الانطباعية كانت مصطلحا للاستخفاف والتقليل من هذا الفن وتحولت إلى اسم أبرز ما أنتجه الفن التشكيلي خلال القرنين الأخيرين.
وكالعادة، تأخذ دور العرض والمتاحف المبادرة في التعاطي مع الجديد، ويعرض متحف غوغنهايم في مدينة بيلباو الإسبانية أعمالا تشكيلية من الذكاء الاصطناعي، وبدوره عرض متحف الفن الحديث «MoMA» في نيويورك أعمالًا أنتجتها الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، يعرض Refik Anadol رفيك أنادول، قطعة فنية بعنوان Unsupervised. وهذا الفنان هو الأبرز الآن في مجال التشكيل بالذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أنها في الأساس هي دار للمزاد، إلا أن سوثبيز نيويورك عرضت وباعت أعمالاً فنية أنتجتها الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، عُرضت أعمال بوتو، وهو «فنان ذكاء اصطناعي»، في مقرها. وتخصصت دار العرض الأمريكية «بيتفورمس غاليري» في التشكيل الرقمي بما في ذلك ما يتم إنتاجه عبر الذكاء الاصطناعي.
ولنعد إلى التساؤل الدائم حول مفهوم الإبداع وعلاقته بالتطور التكنولوجي خاصة أمام اقتحام الذكاء الاصطناعي لحياتنا، وننطلق من تساؤل رئيسي: هل العلاقة بين الفن التشكيلي صراع أم تكامل بين الإبداع الإنساني والخوارزميات؟ ثم: هل يمكن إعادة تعريف الفن والرؤية للجمال والإبداع على ضوء التأثيرات التي يحملها الذكاء الاصطناعي؟ يرى بعض النقاد أن الفن الناتج عن الذكاء الاصطناعي يفتقد للعواطف والرؤية الفلسفية ولا يضاهي الإبداع البشري، ونستحضر قول الناقد الشهير جيري سالتز في تقييمه لأعمال ريفيك أنادول «مسلية ولكنها لا تثير المشاعر ولا تغير أي شيء بداخلك». لكن هذا لا ينفي أن بعض اللوحات المنجزة بالذكاء الاصطناعي تتوفر بالفعل على مستوى فني عال، خاصة اللوحات التي تتطلب من الفنان إجراء تغييرات ورتوشات فنية، ونعني الحالة الثانية المذكورة سابقا.
وفي جانب آخر وضمن ترسانة الحجج التي يقدمها النقد لرفض هذا النوع الجديد من الإنتاج الفني، أنه يتم برمجة الذكاء الاصطناعي على استخدام قواعد بيانات ضخمة من الصور واللوحات التشكيلية المخزنة لمختلف الفنانين في العالم، وهذا يعني أنه ينتج فنًا «مشتقًا»، فهو لا يبتكر من الصفر، بل «يعيد مزج» ما هو موجود بالفعل. ومن خلال تتبع عدد من الأعمال الفنية المنجزة بالذكاء الاصطناعي والتي تتوفر على الشرط الفني المقبول جدا والتي لا يمكن نفي جانبها الإبداعي، لعل السؤال الجوهري من هو الفنان بمفهوم المؤلف أو الفاعل؟ هل هو المستخدم الذي يعطي «الطلب» لبرامج الذكاء الاصطناعي، أم هو المهندس مطور النموذج المستعمل في الذكاء الاصطناعي أم الذكاء الاصطناعي نفسه؟ إنها الأسئلة المهمة جدا جدا بالنسبة للنقد الحالي وفلسفة الفن وتاريخ الفن. من بين الأصوات غير المترددة في إعطاء موقف واضح، الناقدة المكسيكية المعروفة أفلينا ليسبر Avelina lesper التي تعتبر لوحات الذكاء الاصطناعي عملية سرقة لأعمال فنانين آخرين، لأن الذكاء الاصطناعي يأخذ من هذا الفنان والآخر لإنتاج لوحة ويقتصر عمله على الاستنساخ بطريقة أو أخرى. وتحذر من إضفاء الشرعية على ما يعتقد أنه فن يتم عبر الآلة ويفتقد للعمق الإنساني بكل معانيه.
في انتظار الحسم في هذا الجدل الفني، وسيكون معركة ثقافية وفنية بين الجيل الحالي الذي ينفر من فكرة هيمنة التكنولوجيا على الإبداع والجيل الذي بدأ يأخذ المشعل ويرى التكنولوجيا جزءا لا يتجزأ من مستقبل الفن، يتيح لنا الذكاء الاصطناعي تخيل اللوحات التشكيلية التي نريد ونطبع الأحجام التي نريد ونعلقها في منازلنا وهي تحميل توقيعنا. لقد سمحت المطبعة خاصة بالألوان على طبع لوحات كبار الفنانين وبيعها بأسعار رخيصة لتزين منازل الجميع، هل كان إنسان القرن الثامن عشر يتخيل أن يتوفر على نسخة بالألوان من الموناليزا يعلقها في بيته؟ بطبيعة الحال لا. ما يحدث الآن أن الذكاء الاصطناعي يتيح للجميع إنتاج الفن، ولكن لا يجعلهم بالضرورة فنانين.
وبالمناسبة، ولكي لا تظل لوحتي المقال بدون هوية، أوقعهما رغم تحفظي على الذكاء الاصطناعي، حيث يعتبران أول تجربة لي في إنتاج لوحات بهذه التقنية، وذلك بعد سنوات طويلة من استعمال الصباغة الحقيقية وشقاء إعداد الكادر واختيار نوعية القماش وتخيل مضمون وشكل وأسلوب اللوحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب