مقالات

بين التهرّب والمحاسبة: توازنات نتنياهو وحسابات زامير

بين التهرّب والمحاسبة: توازنات نتنياهو وحسابات زامير

ياسر منّاع

بينما يستعمل نتنياهو السرّية كوسيلة للهروب من مواجهة استحقاقات المرحلة الحاسمة، مفضّلًا تغليف قراراته بطبقة من الغموض لتجنّب المساءلة، يوظّف زامير المحاسبة كغطاءٍ مؤسسي لإبعاد الجيش عن تحمّل المسؤولية الكاملة عن فشل السابع من أكتوبر….

في خضمّ الارتباك العميق الذي يخيّم على المشهد الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023، تتجلّى محاولات متزامنة داخل المستويين السياسي والعسكري لإدارة تداعيات الفشل بدل مواجهته. فقد سارع بنيامين نتنياهو إلى تشكيل لجنة وزارية تتولّى الإشراف على المرحلة الثانية من الاتفاق المتعلق بقطاع غزة، متذرّعًا بضرورة منع التسريبات داخل الائتلاف الحاكم، فيما اتخذ رئيس الأركان إيال زامير سلسلة قرارات تأديبية بحقّ عدد من كبار الضباط، محمّلًا إياهم جانبًا من مسؤولية الإخفاق الأمني في ذلك اليوم. ورغم تباين موقع القرارين بين السياسة والعسكر، فإنّ جوهرهما واحد: التهرّب من المسؤولية.

تشكيل اللجنة الوزارية جاء في لحظة سياسية حساسة، حيث تواجه حكومة نتنياهو ضغوطًا داخلية وخارجية في آنٍ واحد. فقد شملت اللجنة وزراء كلًا من: بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، إلى جانب ياريف ليفين وإيال زامير، ما أثار تساؤلات حول دوافع اختيار هذه التركيبة تحديدًا.

المبرّر المعلن تمثّل في منع تسريب المعلومات الحساسة وضمان إدارة منضبطة للمرحلة الثانية، لكن المفارقة تكمن في أنّ الوزراء المكلّفين بهذه المهمة هم أنفسهم من أكثر الشخصيات الإسرائيلية شهرةً بالتسريبات المتكرّرة والتصريحات العلنية عبر الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي، مما يجعل من تبرير السرية غطاءً سياسيًا أكثر من كونه إجراءً يحمل غايات أخرى.

وراء هذا القرار تكمن جملة من الأهداف المتشابكة. أولها محاولة نتنياهو احتواء أي تمرد داخل الائتلاف الحكومي؛ فالأحزاب اليمينية التي يقودها بن غفير وسموتريتش كانت تهدد مرارًا بالانسحاب إذا ما اتخذت الحكومة خطوات نحو من شأنها أن توقف حرب الإبادة على غزة. ومن خلال إشراكهم في اللجنة، أراد نتنياهو تحويلهم من معارضين محتملين إلى شركاء في القرار، بحيث يصبح انسحابهم لاحقًا مكلفًا سياسيًا، ويُفرغ تهديداتهم من مضمونها.

الهدف الثاني يتمثل في توزيع كلفة القرارات المستقبلية المتعلقة بالمرحلة الثانية من الحرب، وهي مرحلة يُتوقّع أن تتضمن قرارات شائكة مثل الانسحاب العسكري أو السماح بترتيبات دولية لإعادة الإعمار وملف إدارة غزة. ولأنّ هذه القرارات حاسمة، فإن إشراك رموزه في اللجنة يمنح نتنياهو غطاءً سياسيًا لتقاسم المسؤولية. فبدل أن يكون القرار هو قرار نتنياهو، يصبح قرار اللجنة الوزارية بأكملها، مما يخفّف من العبء السياسي عليه في الانتخابات القادمة.

وفي العمق، يمكن النظر إلى هذه اللجنة بوصفها أداة لتقليص المزيد من نفوذ المؤسسة العسكرية في القرارات المتعلقة بقطاع غزة. بتشكيل لجنة وزارية تُشرف على المرحلة الثانية، يحاول نتنياهو سحب زمام المبادرة من أيدي القادة العسكريين، وتحويل الملف إلى أداة سياسية تخضع لاعتباراته الشخصية وتحالفاته الائتلافية.

في المقابل، اتّخذ رئيس الأركان إيال زامير مسارًا مغايرًا في الشكل، لكنه متقاطع في المضمون مع ما يفعله المستوى السياسي. فقد أعلن سلسلة قرارات تأديبية شملت إقالة وتوبيخ عدد من كبار الضباط، من بينهم قائد شعبة العمليات اللواء عوديد بسيوك الذي أُقيل من الخدمة العسكرية، بينما اكتفى تجاه قائد سلاح الجو تومير بار وقائد سلاح البحرية ديفيد ساعر سيلما بتوجيه لفت نظر دون إقالة. كما أُشير إلى أن قادة سابقين في شعبة الاستخبارات “أمان” ووحدة “8200” لم يحضروا جلسة المراجعة التي خُصّصت للمحاسبة، وأن القرارات المتعلقة بهم ستُعلن لاحقًا.

تبدو هذه الخطوات في ظاهرها محاولة لإرساء مبدأ المحاسبة والانضباط داخل الجيش، لكنها في حقيقتها تعبّر عن منطق مؤسسي دفاعي يرمي إلى حماية المؤسسة العسكرية من تحمّل المسؤولية الكاملة عن إخفاق السابع من أكتوبر. فزامير اختار أن يُظهر استجابة داخلية محدودة تتيح للجيش الادعاء بأنه يقوم بمحاسبة نفسه، دون المساس بجذور الفشل البنيوي أو البنية القيادية العليا. بهذا، يتحقق للجيش غطاءٌ أخلاقي أمام الرأي العام، يُظهره كجسم مسؤول ومتزن، لا كجهة مهزومة أو فاقدة للسيطرة.

وتتجاوز أهداف زامير هذا البعد المؤسسي إلى ثلاثة مستويات متكاملة:

أولًا، حماية الجيش من تحمّل المسؤولية الكاملة عن فشل السابع من أكتوبر عبر حصر الخطأ في أفراد محدّدين، وتجنّب المساس بالقيادة العليا أو المنظومة الأمنية الأوسع.

ثانيًا، تعزيز الثقة بين الجيش والمجتمع الإسرائيلي في لحظة تتصاعد فيها الدعوات إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية ومستقلة، إذ يُراد لقراراته أن تكون صمام أمانٍ يخفّف الضغط الشعبي ويُظهر أن المؤسسة تُحاسب ذاتها داخليًا.

وثالثًا، النأي بالمؤسسة العسكرية عن المناكفات السياسية الحادة بين الأحزاب، وإبقاء الجيش بمنأى عن التجاذبات الحزبية التي باتت تهدّد صورته كمؤسسة وطنية جامعة.

من هنا، تتجلّى المفارقة العميقة بين القرارين بوضوح صارخ: فبينما يستعمل نتنياهو السرّية كوسيلة للهروب من مواجهة استحقاقات المرحلة الحاسمة، مفضّلًا تغليف قراراته بطبقة من الغموض لتجنّب المساءلة، يوظّف زامير المحاسبة كغطاءٍ مؤسسي لإبعاد الجيش عن تحمّل المسؤولية الكاملة عن فشل السابع من أكتوبر. هكذا يتقاطع السياسي والعسكري في نهجٍ واحد: تجنّب المكاشفة، والتهرب من المسؤولية عبر أدوات تبدو إصلاحية في ظاهرها لكنها دفاعية في جوهرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب