مقالات

الضفة الغربية ودولة المستوطنين

الضفة الغربية ودولة المستوطنين

علي حبيب الله

إن سؤال المرحلة المتصل بالعنف الاستيطاني في الضفة الغربية، ليس في مساعي المشروع الصهيوني لتهجير سكان الضفة منها، إنما في نزوحهم فيها. وبالتالي، فإن النزوح كنزيف شبه يومي من أرياف الضفة إلى بلداتها الكبرى…

“ومع تلقي البلاغات، هرعت قوات من الجيش وشرطة منطقة يهودا والسامرة، وحرس الحدود إلى الموقع من أجل تفريق الاحتكاك، وقد استخدمت القوات وسائل تفريق التظاهرات، وتم إبعاد المتورطين بعضهم عن بعض… إن الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن ملتزمون بالحفاظ على النظام والأمن لجميع سكان المنطقة، ويتصرفون بحزم ضد أي مظاهر عنف ضمن نطاق مسؤوليتهم”.

كان هذا ما نشره وصرّح به جيش الاحتلال في 12 تموز/يوليو الماضي على خلفية اعتداءات المستوطنين على فلّاحي إحدى القرى الفلسطينية في الضفة الغربية ومواجهة أهالي القرية للمستوطنين. ليبدو جيش الاحتلال كما لو أنه طرف محايد، وعلى أهبة الاستعداد دائمًا من أجل “فضّ نزاعات” فلاّحي ورعيان قرى الضفة مع مستوطني المستوطنات المحيطة بتلك القرى، وليبدو كما لو أنه عنف بين مجموعتين سكانيتين تسعى قوات جيش وأمن الاحتلال إلى منعه.

غير أن الحقيقة هي في وقوف جيش الاحتلال وقواته خلف قطعان المستوطنين المنفلتة اعتداءً وتنكيلاً وتخريبًا بحق الفلسطينيين وأراضيهم وأملاكهم. وقد كتب مؤخرًا أحمد الحنيطي مقالة بعنوان “عنف المستوطنين في الضفة: محاولات المحو والإلغاء”، أشار فيها إلى عنف المستوطنين ووتيرته المتصاعدة بشكلٍ يومي في الضفة الغربية كأداة تتبعها دولة الاحتلال لتحقيق أهدافها التكتيكية والاستراتيجية، لناحية تهويدها وتمكين استيطانها.

في عددها الأخير (144 – خريف 2025)، خصّصت مجلة الدراسات الفلسطينية ملفًا خاصًا بالضفة الغربية وأحوالها في ظل عامَي حرب الإبادة على غزة. ومما يلفت، أن معظم الأوراق التي تضمنها الملف عن واقع الضفة الغربية اتصلت بالاستيطان وعنف المستوطنين المتفاقمين في الضفة في ظل الحرب. منها ما كتبه الكاتب أنطوان شلحت في ورقته “الإجراءات الإسرائيلية في الضفة: نحو واقع الدولة الواحدة”، وكذلك الورقة التي قدّمها كل من الباحثين مجدي المالكي وأحمد عز الدين أسعد بعنوان “العنف الاستيطاني وتفكيك المكان: التمهيد لضم الضفة الغربية”، ومقالة بعنوان “التحولات في المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023” للباحث أمير داوود.

فضلًا عن ورقة أحمد الحنيطي التي أشرنا إليها أعلاه، كتب عبد القادر بدوي في الملف نفسه عن “دور المنظمات الاستيطانية غير الحكومية في سياسة الاستيطان والضم”، ومقالة أخرى بعنوان “محافظة سلفيت ما بين تصاعد الهجمة الاستيطانية ومحدودية المقاومة الفردية” كتبها باسل ريان، كما كتبت الكاتبة عطوة جبر مقالًا بعنوان “بين الضم والتهجير: قراءة تاريخية لواقع الأغوار الفلسطينية المحتلة”، وغيرها من الأوراق والمقالات التي تناولت جوانب أخرى من واقع الضفة الغربية السياسي والاقتصادي، ولم تغفل عن سؤال الاستيطان والمستوطنين.

مما يعني أن الاستيطان ودور المستوطنين تحديدًا تحوّلا إلى سؤال بات يشغل أهالي الضفة الغربية قبل أي شيء آخر، خصوصًا خلال عامي حرب الإبادة على غزة، حيث اتخذت الحرب شكلها في الضفة عبر تغوّل عنف المستوطنين واعتداءاتهم اليومية على سكان الضفة في أنحاء مختلفة من مناطقها، ضد الفلاحين والعمّال ورعيان القطعان، وحتى على بيوت وأحياء بعض القرى الفلسطينية التي تحيطها المستوطنات، وذلك إلى حدّ فرض حالة أمنية يهيمن فيها المستوطنون على المشهد الأمني اليومي للضفة الغربية في ظل حرب إبادة غزة.

ولأول مرة يستبيح فيها المستوطنون الضفة أكثر مما يفعل جيش الاحتلال مقارنة بأي انتفاضة أو حرب سابقة على الضفة والقطاع، حيث كان جيش الاحتلال هو من يفرض الواقع الأمني على مناطق الضفة، بينما عنف المستوطنين في السنوات الأخيرة هو ما بات يشغل أهالي قرى ومضارب ومخيمات الضفة.

ليس الاستيطان والبؤر الاستيطانية، التي يعود تاريخ زحفها على تراب الضفة الغربية إلى سبعينيات القرن الماضي، بالشيء الجديد، إنما المستجد في السنوات الأخيرة هو وحشية قطعان المستوطنين، خصوصًا ما يعرف بـ”فتية التلال”، ضد أهالي الضفة. إذ لم يعد الاستيطان اختراقًا بقدر ما صار حربًا مفتوحة على مدن الضفة وقراها، وهذا متصل بطبيعة المستوطن اليهودي ودوره، الذي بات يُعيد تعريف جوهر الاستيطان وطبيعته التي باتت تدفع نحو التحكم في كافة مناحي حياة الفلسطينيين.

فعلى سبيل المثال، القيود على حركة تنقل فلسطينيي الضفة الغربية بين محافظاتها أو ما بين مدينة وأخرى، وحتى ما بين القرى، عبر سياسة الإغلاق وتفعيل بوابات العزل والتعطيل على الحواجز، لم تعد مجرد إجراءات طارئة تطلبتها ظروف الحرب على غزة أمنيًا، بقدر ما غدت نظامًا أمنيًا يوميًا متصلًا بتنظيم حركة تنقل الفلسطينيين وفق إيقاع حركة المستوطنين. بمعنى أن إعاقة حركة الفلسطينيين في توقيت بعينه من ساعات الصباح والمساء يتصل بتوقيت خروج المستوطنين من مستوطناتهم إلى أعمالهم وعودتهم إليها في ساعات المساء.

وفي هذا ما هو أكثر من عقاب للفلسطينيين في الضفة في ظل حرب الإبادة على غزة، على أثر الطوفان أو نتيجة عملية أمنية نفذتها المقاومة في الضفة. إنما هو بنية استعمارية – صهيونية للضفة الغربية باتت تأخذ شكلها في تقطيع أوصال الضفة جغرافيًا عبر المستوطنات، والتحكم بطرق المواصلات بما يعطي الأولوية لحركة المستوطنين.

كانت للحكومة الإسرائيلية، بكل ما يعتملها من يمينية وعنصرية ووحشية، أجنداتها الاستيطانية تجاه الضفة الغربية منذ ما قبل طوفان تشرين الأول/أكتوبر 2023، مع تسلّمها الحكم أواخر عام 2022. إذ سعت منذ حينه إلى سلسلة إجراءات قانونية وإدارية وأمنية متصلة بالضفة الغربية، بما يمكّن واقع استيطانها وضمّها.

لكن الحرب على غزة منحت نتنياهو إطلاق أيدي وزيري حكومته الفاشيين، سموتريتش وبن غفير، لتمرير أجندتهما في الضفة، والمساندة لممارسات المستوطنين الوحشية ضد الفلسطينيين.

ليست ممارسات المستوطنين الوحشية، المسنودة بإجراءات الحكومة الإسرائيلية الحالية وجيشها في الضفة، انتقامية أو عقابية عشوائية، إنما ممنهجة ومدروسة. فالاعتداءات اليومية من قبل المستوطنين على فلّاحي القرى في أراضيهم وبساتينهم، ورعيان القطعان من بدو شمال الضفة والأغوار، ممنهجة بما يدفع إلى إفراغ مساحات واسعة من أراضي الضفة الزراعية والرعوية لصالح البؤر الاستيطانية ومستوطنيها، المداومين على تدشين استيطان صهيوني – رعوي في السنوات الأخيرة، خصوصًا في الأراضي المصنفة “ج”، والتي تشكل نسبة أكثر من 60% من أراضي الضفة الغربية. ومن هنا، تُفهم تفاصيل ممارسات المستوطنين مثل قطع أشجار بساتين فلاحين قرى الضفة، وتسميم قطعان مواشي البدو، بغرض قطع صلة الفلسطيني بما تبقى من فضائه الفلاحي والرعوي لصالح استيطان هذا الفضاء.

كان دور جيش الاحتلال وقواته، الذي يريد أن يبدو حياديًا إزاء ممارسات المستوطنين، في مساومة الفلسطينيين بعدم العودة إلى أراضيهم ومراعيهم تفاديًا لما يسمّيه بـ”الاحتكاك” مع المستوطنين، بما يحول دون وصول الفلسطيني إلى كرومه ومراعيه، لصالح المستوطن اليهودي ومشروعه الاستيطاني في الأخير.

لم تعد تعابير مثل “وْئد حلم الدولة الفلسطينية”، أو “ضم الضفة الغربية”، تفي بغرض فهم وتعريف الاستيطان الصهيوني وأهدافه في الضفة الغربية، التي باتت دولة للمستوطنين.

والحديث عن “تهجير مستقبلي”، على صحته كهاجس متداول في الإعلام الفلسطيني والعربي، ليس محتمَلًا بقدر ما أنه جارٍ لغةً واصطلاحًا على مدار الساعة، في ظل حرب الإبادة على غزة وبعدها.

ففي شمال الضفة الغربية وأغوارها الشرقية عشرات آلاف النازحين والمُقتلعين من بيوتهم وخيامهم، من مخيماتهم ومضاربهم وأراضيهم ومراعيهم اليوم، مما يدفع في الوقت الحالي وعلى المدى المنظور ليس إلى طرد فلسطينيي الضفة إلى خارجها، إنما إلى داخلها، على شكل نزوح إلى البلدات الكبرى والمدن، بما يُنتج حالة “مستوطنون أقل على أرض أكثر، وعرب أكثر على أرض أقل”.

بالتالي، فإن سؤال المرحلة المتصل بالعنف الاستيطاني في الضفة الغربية، ليس في مساعي المشروع الصهيوني لتهجير سكان الضفة منها، إنما في نزوحهم فيها. وبالتالي، فإن النزوح كنزيف شبه يومي من أرياف الضفة إلى بلداتها الكبرى ومدنها، هو بذاته مقدمة لمشاريع الضم والتهجير مستقبلًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب