ثقافة وفنون

وحيداً على المسرح: انفرادات الراقص في فن الباليه–مروة صلاح متولي

وحيداً على المسرح: انفرادات الراقص في فن الباليه

مروة صلاح متولي

أثناء اللحظات التي ينفرد فيها راقص الباليه بخشبة المسرح، يكون عليه أن يملأ وحده كل هذا الفراغ، وأن يشغل هذه المساحة التي خلت من أجله، وأفرغت من جميع الراقصين الآخرين، لكي يرقص بطل العمل وراقصه الرئيسي، وينفذ ما رسمه المصمم له خصيصاً من خطوات وحركات.
عادة ما تكون هذه اللحظات قصيرة زمنياً، لكنها تحتوي على الكثير من المتعة المكثفة، والإثارة الجاذبة للجمهور، الذي ينصب تركيزه على الراقص وحده، دون أن يتشتت البصر بين أفراد وعناصر أخرى على خشبة المسرح. ولأن الجمهور يعرف معنى أن ينفرد الراقص بخشبة المسرح، فإنه يتابع ما يجري بانتباه كأنما هو جزء من مباراة شيقة، وبالفعل تمثل هذه الانفرادات تحدياً صعباً أمام الراقص، وانتصاراً كبيراً أيضاً، ويمكن تشبيهها بلحظات إحراز لاعب كرة القدم للأهداف في المباريات. ويكون مطلوباً من الراقص في تلك اللحظات القليلة، أن يظهر مهارة الحركة وبراعة الخطوة وقوة الأداء، وطول المران وحسن التمرس، وفوق كل ذلك عليه أن يظهر شخصيته الخاصة، وأن يطبع كل هذه الأمور بطابعه الفني المميز، وأن يطلق العنان لإحساسه بالدور الذي يلعبه، وطريقته في تنفيذ الحركة النابعة من الشعور الذي يمر به البطل في تلك اللحظة، ضمن تطور أحداث القصة الدرامية، التي يتناولها الباليه الكلاسيكي على وجه الخصوص، إذ يكون الأمر مختلفاً في الباليه الحديث، الذي قد نرى في عرض من عروضه، أداءً منفرداً للراقص طوال الوقت حسب موضوع العمل.
أما الباليه الكلاسيكي فإنه يعتمد في الغالب، على الراقصة الرئيسية أو البطلة، والراقص الرئيسي أو البطل، والراقصين أصحاب الأدوار المساعدة، كالأبطال المقاتلين أو الأشرار في الحكاية مثلاً، ثم أصحاب الأدوار الثانوية والمجموعات الراقصة، وقد يحتاج الأمر في بعض عروض الباليه الكلاسيكي، إلى وجود أفراد أو مجموعات على خشبة المسرح، دون أن ترقص أو أن تؤدي حركة واحدة، وتكون هذه المجموعات أشبه بمجموعات الكومبارس في السينما. ويقوم مصمم الباليه الكلاسيكي بإعداد الرقصات الفردية لكل من الراقص والراقصة، والرقصات الثنائية والثلاثية، والرقصات التي يتزايد تشكيلها، وعدد أفراد راقصيها حتى تصل إلى المجموعات الكبيرة. ولا تأتي لحظات الانفراد الخاصة بالراقص، هكذا دخيلة مقحمة على العرض، وإنما تكون مرتبطة بسياق الدراما، وتمثل الأوقات الصعبة، أو الجميلة التي يمر بها البطل، فالعزلة تكون جميلة حينما يقضيها في انتظار الحبيبة مثلاً، التي ستأتي سريعاً إلى الموعد الغرامي، وتكون العزلة قاسية عندما يقضي البطل لحظاتها عند قبر الحبيبة، أو في السجن ومواجهة المصير المجهول. وأحياناً تكون هذه العزلة تأملية، تمثل حواراً مع النفس ومراجعة للذات، وبعيداً عن مشاعر الأبطال والشخصيات الخيالية، يكون الراقص نفسه سيد المسرح في عزلته الفنية المؤقتة، يرسل الجسد والقدمين والخطوات والإشارات، ويأتي بكل ما في إبداعه من ألوان، ساعياً إلى صنع أسطورته الخاصة.

وبشكل عام يختلف الأداء الذكوري، عن الأداء الأنثوي في فن الباليه، ويتطلب ذلك من الراقص المزيد من القوة الجسدية، واتزان الجسد المنضبط إلى أقصى درجة، والحفاظ على هذا التوازن حتى أثناء حمل الراقص للراقصة ورفعها إلى الأعلى.
وللرقص الذكوري جمالياته أيضاً، وأوضاعه الأساسية وحركاته المعروفة التي يعتمد عليها مصمم الباليه. ومن الرقصات الفردية المشهورة التي يؤديها الراقصون من الرجال في عالم الباليه، رقصة الأمير في باليه «كسارة البندق» التي تبدأ بدوران الجسد في الهواء أكثر من دورة سريعة، مع الحفاظ على استقامة الجسد، ثم القفز بحركة دائرية اعتماداً على الساق الممدودة في الهواء، ثم التبادل السريع بين القفز يميناً ويساراً، مع ضرب القدمين ببعضهما عدة ضربات أثناء الوجود في الهواء، وتتطلب هذه الرقصة الكثير من السرعة والخفة والرشاقة، التي تعبر عن شخصية خيالية، تحلم بها بطلة العمل كلارا. وكذلك تعد رقصة سيغفريد في باليه «بحيرة البجع» عندما يرقص وحيداً بعد أن ينفصل عن أصدقائه، من أجمل الرقصات الفردية، والمعروف أن باليه «بحيرة البجع» يوجد في أعلى قمم هذا الفن. وفي باليه «ابنة فرعون» يبدأ الراقص وحيداً وينتهي وحيداً، أمام أهرامات الجيزة، كما يرقص منفرداً في منتصف العمل بالزي الفرعوني، وهو في خضم الحلم الجميل، الذي عشق فيه اللورد البريطاني مومياء فرعونية، تحولت إلى فتاة جميلة من أجله ثم عادت إلى تابوتها مرة أخرى، وانقضى الحلم الجميل.

وفي باليه «جيزيل» الذي يعد من أقدم وأجمل العروض الكلاسيكية، يرقص ألبريخت عند قبر حبيبته جيزيل، بعد أن ماتت بسببه، ولم يحتمل قلبها اكتشاف خيانته وكذبه، ذلك أنه أخفى خطبته لفتاة أخرى من وسطه الاجتماعي، وتتحول جيزيل إلى روح تهيم في الليل، وتنضم إلى مجموعة الفتيات من ضحايا الحب، وتعمل معهن على الانتقام من الرجال العابثين بقلوب البريئات، ويجعلوهم يرقصون حتى الموت، ويقع هذا الحكم على ألبريخت، الذي يظل يرقص متعباً إلى أن تنقذه جيزيل من الموت وتسامحه.

باليه سبارتاكوس

في باليه «سبارتاكوس» يرقص بطل العمل، سبارتاكوس قائد ثورة العبيد ضد الإمبراطورية الرومانية قبل الميلاد، وهو مقيد بالأغلال، إذ تربط بين يديه سلسلة طويلة، لكي تتيح له الحركة، بينما لا يتم تقييد القدمين بطبيعة الحال. وفي تلك الرقصة الفردية، يحاكي الراقص الشعور بالقيد وثقل الأغلال، فيبدو الجسد كأنه مشدود إلى الأسفل، والقدمان في خطوهما يقاومان شيئاً ثقيلاً ضاغطاً، ويصارع سبارتاكوس في هذه الرقصة، وهو مصارع من العبيد، قدره وواقعه لا قيوده المادية المثبتة في جسده وحسب، وتتوق نفسه إلى الحرية، حريته وحرية العبيد جميعاً. وتتراوح حركة الرأس بين التوجه بها نحو الأعلى، والهبوط بها إلى الأسفل، وتكون الحركة نحو الأعلى تعبيراً عن نشدان التحرر، واستجماع القوة من أجل الوصول إلى هذا التحرر، وإظهار العزم على تحقيقه، أما الحركة نحو الأسفل، فإنها تعبر عن الإحساس بالتعب، واللحظات التي يغلب فيها شعور الانهزام، الناتج عن تاريخ طويل من القهر، يكفي لإقعاده عن رحلة التحرر الشاقة.
تبدأ الرقصة بطيئة بحركات غير مكتملة، أو مبتورة سرعان ما تصير إلى التوقف، فيها تعبير عن القوة الجسدية، لكنها قوة مقيدة تم تحجيمها والسيطرة عليها، وعندما تستخدم فإنها تستخدم من أجل مصالح الأسياد فقط. أما الذراعان واليدان، والمعصمان المثبتة فيهما سلسلة حديدية طويلة، فمن خلالها يؤدي الراقص مجموعة من الحركات والإشارات طوال الرقصة، وفي الجزء الأول منها على وجه الخصوص، حيث تكون الخطوات وحركات القدمين محدودة، وتكون أصابع الكف مغلقة في بداية الرقصة أيضاً، وتعبر قبضة اليد عن الغضب المكبوت، ثم تنفتح وتمتد نحو الفراغ، ويتم فرد الذراعين كجناحي طائر، ويكونان في وضع أفقي مواز للأرض، مع أول دوران للراقص. وتكثر حركات التشنج والمقاومة لدى الذراعين، لإظهار مدى الضيق من الأغلال ومحاولة الفكاك منها أو كسرها، وكذلك تتكرر حركات وضع الذراعين على الصدر بشكل متقاطع، كما لو أن الراقص يحتضن نفسه ويواسيها، أو يشد من أزرها ويمدها بالمزيد من القوة.
ويتخذ الجسد خلال هذه الرقصة المنفردة من باليه «سبارتاكوس» بعض التكوينات التشكيلية الأقرب إلى تماثيل المصارعين، أو أوضاعهم أثناء القتال، واعتمدت الرقصة على الدوران سواء على الساقين أو على ساق واحدة، والقفز إلى أعلى والدوران في الهواء أيضاً، وفي الجزء الأخير من الرقصة يهبط الجسد إلى الأرض، في ما يشبه وضع السجود، ويقوم الراقص بالتقلب على الأرض عدة مرات، ثم يقف من جديد في النهاية رغم الضعف الشديد ليستكمل كفاحه.

كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب