تعريف:
الأيديولوجيا عبارة عن نظريات تشرح خبرات البشر والعالم الخارجي بشكلٍ شامل. وتضع برنامجاً عاماً يمكن تحقيقه بواسطة منظمة سياسية أو اجتماعية. والبرنامج يخاطب العامة ولكنه يأخذ رأي المثقفين فيما يخص الأدوار القيادية. فضلًا عن أن الأيديولوجيا أصبحت نسقًا قابلًا للتغيير استجابة للتغيرات الراهنة والمتوقعة، سواء أكانت على المستوى المحلي أم العالمي.
مفاهيم الأيديولوجيا المعاصرة في الوطن العربي متعددة الاتجاهات:
عبر تاريخ العرب المعاصر، من خلال متابعتنا أصناف الأيديولوجيا وأشكالها التي تهتم بمشاكل الأمة العربية، أمكننا -من وجهة نظرنا- أن نحدد أربعة مفاهيم من الأيديولوجيات، وهي التالية:
-الأول: المفهوم الأممي الوضعي خسر الأمة ولم يربح الأممية.
-الثاني: المفهوم الأممي الديني يخسر الأمة ولن يربح الأممية.
-الثالث: المفهوم القومي الديني يضيِّع الحدود بين مفهوم أممية الدين ومفهوم القومية.
-الرابع: المفهوم القومي العلماني: لبناء المجتمع القومي الموحَّد من دون خسارة العمق الإنساني.
تمهيد:
من أهم النظريات المجرَّدة في تاريخ الفلسفة، والتي كانت محايدة عن الغرق في التفاصيل، عرفنا أثرين كبيرين، وهما: (جمهورية أفلاطون) للفيلسوف اليوناني أفلاطون. و(المدينة الفاضلة) للفيلسوف العربي أبو نصر الفارابي. وهما مصنَّفان محض نظريان مجردان أهتمَّا بالتفتيش عن أهم العوامل التي يمكنها أن تعمل على المقاربة بين الإنسان وتكوين مجتمع سعيد.
عالج كل منهما في مصنَّفه مفاهيم القيم والمُثُل العليا الصالحة لبناء مجتمع إنساني فاضل مجرَّد عن أهواء البشر ونزعاتهم الفردية، ويُعمل على تسييره وفق منهج تلك المفاهيم. ولا يخفى أن الماركسية تكون قد تأثرت بمفاهيم القيم الإنسانية العليا، ولذلك توَّجت أهدافها المرحلية بالوصول إلى المرحلة الشيوعية التي تُطبِّق مبدأ (من كل إنسان حسب مقدرته، ولكل إنسان حسب ما يحتاجه).
ولم نجد عند الفلاسفة الثلاثة، كما على أساس مقاربة النظرية من إمكانية التنفيذ، ما يُنبئ أن المجتمعات الإنسانية المُتخَيَّلة يمكن تحقيقها من دون وجود إنسان مثالي. ولكن هذا لا يجوز أن يلغي من ذاكرة البشر حلم إيصال الإنسان الفرد، أو حتى الجماعات، إلى أقرب ما يمكن من المثال الأعلى.
وعلى المسار ذاته، ومن أجل إنزال نظرية المُثُل إلى ميدان التطبيق، نشأ في الثقافة العربية عدد من المفاهيم الأيديولوجية، التي عملت على حل للقضايا العربية من أجل الوصول بالمجتمع العربي إلى مستوى بناء ثقافي وسياسي واقتصادي، حسب رُوَّاده أنه يرتقي إلى مستوى المجتمع الفاضل. وعن ذلك -من وجهة نظرنا- رصدنا أربعة مفاهيم أيديولوجية، سنقوم بتكثيف رؤويتنا لها، وهي:
-الأول: المفهوم الأممي الوضعي خسر الأمة ولم يربح الأممية:
يتمثَّل هذا المفهوم بالفلسفة الماركسية التي اعتقدت ببناء مجتمع عالمي فاضل يحقق العدالة والمساواة بين أبناء البشر جميعاً. ومن أجل تنفيذه بنت أول تجربة لها في روسيا القيصرية ما برحت حتى حققت بناء منظومة من الدول، أطلقت عليها اسم الاتحاد السوفياتي. وبإنشائه خضعت الفلسفة الماركسية لتجربة بلغ عمرها أكثر من سبعين عاماً، ونال العرب منها قسطاً وافراً من الجهود، وشقَّت طريقها، منذ العام 1924، عبر تأسيس العشرات من الأحزاب الشيوعية العربية، وبها عرفت المنطقة العربية التجربة الحزبية الأولى الحاملة للأيديولجيا النظرية الأممية.
أنشأ الحزب الشيوعي الروسي نظاماً سياسياً متكاملاً ضمَّ إليه أكثر من عشر قوميات مختلفة. ولكنها تحت نزعة الخصوصيات القومية، لاختلاف الأعراق واللغة والعادات والتقاليد والتكوين التاريخي… انهارت التجربة في العام 1990. ومن بعد انهيارها، عاد كل جزء منها إلى بناء دولته القومية المستقلة عن الاتحاد الأم.
وإذا ما فتَّشنا عن أسباب الانهيار لوجدنا أن الإنسان في المجتمع السوفياتي لم يبلغ المستوى المثالي أو أقل منه بكثير وهو عاجز عن تذويب ذاته بعيداً عن الخصوصيات الشخصية والنزعات الفردية من جهة، وكان عاجزاً عن تذويب نزعاته القومية من جهة أخرى.
ولأننا كنا نودُّ أن يقوم الماركسيون، وخاصة الأحزاب الشيوعية العربية، بمراجعات نقدية لتجربة انهيار الحلم الأممي، ولكنهم لم يفعلوا حتى الآن. ولأننا نعتبر أن نقد التجربة من داخلها ستكون أكثر فائدة للتراكم المعرفي الإنساني بشكل عام، وللتراكم المعرفي العربي بشكل خاص، فإننا نناشدهم من جديد أن يقوموا بواجبهم خدمة لقضايا العالم ومنه العالم العربي.
وللأسف، وبدلاً من نقد تلك التجربة لاذت الأكثرية الساحقة من الماركسيين إلى ثقافة نرجسية راحوا يتعالون بها على الثقافات الأخرى، خاصة منها الثقافة القومية التي لم يملُّوا عن اعتبارها ثقافة شوفينية، يوجهون سهام اتهاماتهم إلى الفكر القومي من برج نرجسي إذا لم يضر أحد فإنه لن ينفع أحد، لا بل سوف يضع الأجيال الجديدة، التي تفتش عن حلول لإشكاليات عربية كثيرة، عرضة للعيش بالوهم الأممي من دون أن تحصل عليه، ولكنه في الوقت نفسه يعود بالخسارة على القومية العربية التي هي بحاجة إلى طاقات أبنائها الثقافية الإيجابية البنَّاءة، وليس الطاقات الثقافية ذات الشحنات السلبية. لأنهم بتلك الثقافة السلبية لن يفيدوا الأمم الأخرى، بل هم يضاعفوا خسارة القومية العربية خسارة على خسارة.
-الثاني: المفهوم الأممي الديني خسر الأمة ولن يربح الأممية.
وكما دلَّت الأبحاث التاريخية على فشل تجربة الأممية الوضعية، دلَّت بدرجة أكثر تأكيداً على فشل تجربة قيام الدولة الدينية العالمية، كحلم بناء نظام سياسي ديني أممي عندما انهارت آخر نماذجها الإسلامية بانهيار الإمبرطورية العثمانية. تلك التجربة كان قد سبقها تجربة قيام دولة دينية عند المسيحيين في أوروبا، كانت قد انهارت بفعل عصر التنوير في أوروبا الذي كان قد كشف مخاطرها على الدول الأوروبية التي عايشت تجربة حكم الكنيسة لقرون عديدة؛ ولكنه أثبت فشله بسبب طغيان رجال الكنيسة، وإغراقهم في الغيبيات، والابتزاز المادي لأتباعها من جهة، وقمع مخالفيها بأبشع وسائل المحاكمات والترهيب والتعذيب.
وإذا كان الفلاسفة والمفكرون المسيحيون قد نقدوا تجربتهم، ولجأوا إلى حل الدولة المدنية العلمانية، مع حماية حق مواطني تلك الدولة بممارسة عباداتهم وطقوسهم. وكانت الحماية مشروطة بمنعهم من التعرض لحقوق الآخرين الدينية. وبتلك الحلول وفَّروا على المواطنين عندهم عبء تطبيق مبادئ التكفير والتكفير المضاد، وعبء الاتهام بالهرتقة والردة، لكن فشل الدولة الدينية الإسلامية، الذي كان قائماً على التمييز بين الإثنيات الدينية والمذهبية من جهة، وفتاوى الفقهاء المسلمين في ملاحقة الفلاسفة والمفكرين ومحاكمتهم من جهة أخرى، لم يجد من يجرأ على القيام بنقد تلك التجارب إلاَّ من رحم ربي. ولذلك، فقد نشطت حركات الإسلام السياسي في هذه المرحلة أكثر من أية مرحلة أخرى، عرف بها العرب خاصة، والدول الإسلامية الأخرى عامة، أكثر حروب التكفير دموية. وخاصة أن الأجيال العربية الشابة عاصرتها ونالها منها الكثير من الأذى.
وعن ذلك، واتصالاً بالقضية التي يقوم مقالنا بإلقاء أضواء عليها، أجمعت الحركات الإسلامية على شتى أطيافها ومذاهبها، على رفض الفكرة القومية العربية بشكل خاص. والمحنة التي يعاني منها مسلمو تلك الحركات هو أنهم خسروا قومياتهم من دون أن يكسبوا حلمهم الأممي الديني. وكانت مرحلة ما تُسمى بـ(الربيع العربي) شاهداً عيانياً على تلك التجربة.
ولأن عجلة محنة الأيديولوجيا الدينية الإسلامية لا تزال تسير مكابرة على فشلها ولم تستطع أن تهضمه حتى الآن، بقيام حركة نقدية لمسيرتها الطويلة المشوبة بالأخطاء. ولهذا فإن قيام دولة علمانية قومية عربية تواجه صدَّاً شديداً من تلك الحركات، وهم بذلك يسيرون ِباتجاه معاكس لمصلحة الأمة العربية.
-الثالث: المفهوم القومي الديني يضيِّع الحدود بين مفهوم أممية الدين ومفهوم القومية.
بين الحدين الأمميين المتصارعين ظهر مفهوم آخر حاول التزويج بين الأيديولوجيا الإسلامية والأيديولوجيا القومية، لعله يستطيع التوفيق بينهما.
علماً أن الدين الإسلامي له انتشار على المستوى الأممي في أكثر من دولة، وهذا يمكنه أن يخلق إشكالية في مفاهيم المواطنة، كما يخلق التباساً عند المتدين عندما يُوضع أمام اختبار لمن يكون ولاؤه: هل لقوميته التي يحكمها دين آخر أو مذهب آخر؛ أم يختار الانتماء إلى دولة أجنبية نظامها ديني أو ديني مذهبي يتوافق مع انتمائه الديني أو انتمائه المذهبي.
حول هذا المفهوم تساوى في الأهداف تياران: تيار يستفيد من المفهوم القومي لكي يشدِّه لمصلحة قيام نظام ديني – سياسي. وتيار آخر يستفيد من المفهوم الديني لمصلحة قيام نظام قومي مدني. وفي تقديري لن ينجح التياران في أهدافهما لأن في كليهما عوامل تتناقض مع الآخر، وفيهما ما يزرع الشك في نفوس الأديان أو المذاهب الأخرى، وهذا الأمر فيه ما يُضعف العلاقات بين الأطياف الدينية والمذهبية في المجتمع الوطني أو القومي.
ونتيجة للبحث الطويل عن الأسباب التي جعلت من التيار القومي يعتقد بأنه يمكن أن يستفيد من المفهوم الديني لمصلحة المفهوم القومي، وهنا ينحصر هذا الاعتقاد باعتبار الأيديولوجيا الإسلامية أحرزت متغيرين استراتيجيين في حياة مجتمع الجزيرة العربية، هما توحيد القبائل العربية وشكَّل هذا العامل فائضاً من القوة البشرية استطاع فيه العرب المسلمون أن يحرروا الأرض العربية من نفوذ إمبراطوريتيْ الفرس والروم؛ ولهذا اعتقد هذا التيار أن العلاقة بين الإسلام والعروبة أصبحت بمثابة العلاقة العضوية. وبمثل هذا الربط العضوي ابتدأت الإشكالية التي تعني فيما تعنيه، أنه لا انفصام بين المفهومين القومي والإسلامي، وكأن مستقبل العروبة سوف يبقى مهدداً بالمخاطر فيما لو تم تجريد العروبة عن الإسلام أو الفصل بينهما.
وعن تأثير العامل الديني الذي أنجز أهم النتائج في تاريخ العروبة، في زمانه ومكانه، أصبح عاملاً معيقاً في توحيد أبناء الأمة العربية خاصة بعد أن أصاب التفتيت الأيديولوجيا الإسلامية بعد وفاة الرسول مباشرة، وحوَّلها إلى مئات من المذاهب المتناحرة والتي يكفِّر البعض منها بعضها الآخر. ولهذا السبب، وبتقديري من خلال النتائج التي توصلت إليها من البحث الذي أجريته أن حماية الكيان القومي ضد الاحتلال الأجنبي، أو تحريره من الاحتلال، يمكنه أن يحصل بدوافع أيديولوجيات أخرى غير الأيديولوجيا الدينية، ويأتي العامل القومي في طليعتها. وهذا الأمر حصل في تجارب شعوب غير إسلامية وغير عربية. كما حصل في تجارب عربية معاصرة، شارك فيها المواطنون جميعاً من دون تمييز بين طائفة أو أخرى.
-الرابع: المفهوم القومي العلماني: لبناء المجتمع القومي الموحَّد من دون خسارة العمق الإنساني.
يتعالى هذا المفهوم على كل العوامل ذات الخصوصيات الاجتماعية، كالدين والطائفية والعشائرية، لأنها ليست ذات نزعات عامة مشتركة بين أطياف المجتمع الواحد. ولكنه يعمل على تهذيبها لمصلحة جماعتها من دون الصدام مع مصالح الجماعات الأخرى في المجتمع القومي من جهة، واحترام ممارستها والحق به من دون الاصطدام بحق الآخرين من الجماعات الأخرى من جهة ثانية. وكل ذلك يتم على قواعد احترام الخصوصيات الدينية داخل دائرة احترام وحدة المجتمع القومي.
يعتقد هذا التيار أن بعض أسباب الالتباسات الحاصلة من التوفيق بين القومية والدين الإسلامي خاصة، عند التيار التوفيقي الذي يعتقد بالعلاقة العضوية بين الإسلام والعروبة، عائد إلى عدم التمييز بين دور تاريخية الإسلام ودوره الأيديولوجي. وهذا ما أمكنني تفسيره بالأسباب التالية:
-تاريخيته أنه أنجز متغيرين استراتيجيين: وحدة مجتمع الجزيرة العربية التي أنتجت فائضاً من القوة العسكرية سمحت بتحرير الأرض العربية من الفرس والروم.
-مستفيداً من القوة المعنوية التي ولَّدتها الأيديولوجيا الإسلامية،كانت المحرِّك الرئيسي في زمانها ومكانها. وليست بالضرورة أن تبقى المحرك في المرحلة المعاصرة، فقد حل البديل عنها المحرك القومي.
-هذا ما يدفعنا للتساؤل: كيف يمكن للتيار القومي التوفيقي الاعتقاد بمكانة مهمة للإسلام ترتقي إلى العلاقة العضوية مع العروبة، في الوقت الذي يرفض فيه قيام دولة دينية؟
يعتقد مؤيدو هذا التيار أنه يتجاوز التناقضات والإشكاليات والالتباسات التي سجنت المفاهيم الأخرى. هذا، كما أنه يتشارك مع بعض منطلقاتها ويتناقض مع المنطلقات الأخرى:
1-يتشارك مع التيارين الأمميين بأهمية العامل الإنساني ويضعه مكملاً وعاملاً عضوياً، يضعه في صلب اهتماماته وأهدافه مبرزاً تعليله لهذا الربط بين القومي والأممي، معطياً الأولوية للبناء القومي السليم أولاً، بأن من يعجز عن بناء نظامه القومي السليم سيكون أكثر عجزاً عن بناء نظام عالمي سليم.
2-يتناقض مع التيار الأممي الوضعي الذي يحسب أن النظام الأممي له الأولوية، وذلك بإعطاء الأولوية للنظام القومي.
3-يتناقض مع التيار الأممي الديني الذي يعطي الأولوية للنظام الديني السياسي، وذلك بالفصل بين الدين والسياسة، وهذا الأمر عائد إلى كثرة الأديان والمذاهب في المجتمع القومي العربي.
4-يتناقض مع التيار التوفيقي بين الدين والسياسة بفرعيه، بأن هناك استحالة للمقاربة بينهما، باعتبار أن الدين قد يكون عاملاً من عوامل التكوين القومي، إذا غاب فلن يصيب البناء القومي بضرر. فهو عامل متغير والقومية ثابت إنساني. وهذا ما يؤكده أن كل دول العالم مبنية على أسس الانتماء القومي، وليس على أسس الانتماء الديني.
-الحل:
نرى أن إبقاء مفهوم الأممية حلماً إنسانياً، لأنه بدونه ستتحول القومية إلى نزعة شوفينية، وسوف لا ترى ذاتها خارج ذاتها، وإذا تطلعت إلى خارج ذاتها فلن ترى الخارج إذا كان مخالفاً لمرآتها. وإبقاء مفهوم الدين حلماً روحياً لكي تتكامل به ثنائية الجسد والروح، ولكن على أن ينتقل بالدين من مفاهيمه السطحية إلى مفاهيمه العميقة التي توحد المجتمع لا أن تفتته إلى شرائح تقتل الواحدة منها الشريحة الأخرى تحت ذريعة أن مقدسها هو المقدس الوحيد في هذا الكون, وتجمع المجتمعات القومية الأخرى لا أن تغرقها في بحور الدم دفاعاً عن مقدساتها. وأن يكون مفهوم القومية العلمانية واقعاً يستفيد من المفاهيم الأيديواوجية الأخرى من دون الغرق فيها. يُوحِّد لا يفرِّق، ويحترم حقوق الآخرين بالاعتقاد من دون تفضيل أيديولوجيا على أخرى، وهو ما يقتضي أن تكون الحركة الأيديولوجية للقومية على حياد تام بالنسبة للمعتقدات الدينية، وتفصل بين مهمتها كحركة مدنية تساوي بين المواطنين في الدولة القومية، وبين مهمة رجال الدين، وأن لا تتدخل سوى في منع كل نشاط فكري ديني أو مذهبي يؤثر على وحدة المجتمع، ويحصر إرشاد رجال الدين بإبراز حسنات اعتقادهم الديني أو المذهبي من جهة، ويبتعد عن أي إرشاد يذمُّ معتقدات الآخرين الدينية. وهذا يفرض على الدولة القومية العلمانية أن تمنع تأسيس أحزاب دينية سياسية.
وأخيراً،
إن ما قمنا بإيجازه ليس أكثر من مسطَّح عام، يمكنه أن يتعمَّق أكثر فأكثر، ويصبح قابلاً للمقاربة مع الأيديولوجيات الأخرى، طالما يبقى الحوار الموضوعي والهادف وسيلة للتيارات كافة.
ونحن إذ نعلن دعوتنا للحوار بين الأيديولوجيات السائدة على ساحة الوطن العربي، وعلى قاعدة الاعتقاد بأيديولوجيا القومية العلمانية المنفتحة على الآخرين، سوف نبقى من المؤمنين بأننا لا نزال نعاني على الصعيد العربي من أزمة أيديولوجية يشكل استمرارها مخاطر سياسية وثقافية على وحدة الأمة العربية، وسوف تبقى العوائق الداخلية أشد إيلاماً من السهام التي يصوِّبها الخارج إلى القلب من شؤوننا الداخلية.
علماً أن المعادلات الرياضية التي تستند إلى الأرقام والتحاليل المخبرية، هي غيرها التي تستند إلى معادلات اجتماعية تستند إلى الخبرات التاريخية وعلوم الاجتماع والنفس والفلسفة. ولأن الأيديولوجيات تُكال بمقاييس نتائج المعادلات الاجتماعية، وليس بمكاييل المعادلات الرياضية والعلمية، تبقى عرضة للاستنتاج والاجتهاد. فلهذه الأسباب، ولأن كل تيار أيديولوجي يقيس اعتقاده الأيديولوجي على مكاييل المعادلات الرياضية فكأنه يجرُّها إلى الجمود والتقديس والتكلُّس، والتي بها ينقطع الحوار حتى داخل التيار الأيديولوجي الواحد، سواءٌ أكان أممياً وضعياً أو دينياً، أم كان قومياً. ولهذا نرى أن كل تلك الأيديولوجيات السائدة في المرحلة العربية المعاصرة تعاني من تلك الأزمة بشكل أو بآخر. ولأنها أقفلت باب الحوار من داخلها، وانغلقت على الحوار مع الخارج، تكون الأيديولوجيات المتصارعة في العالم العربي الحديث والمعاصر قد دخلت نفق المحنة.
ولأن الأيديولوجيات ترسم خرائط الخطاب السياسي، كون الأيديولوجيا يتكامل فيها النظري مع العملي. ولأن النظرية تحدد خطى مراحل التنفيذ، فعندما تنغلق النظرية على ذاتها وتعتبر نفسها أنها بلغت نهاية الحوار مع ذاتها، فلا شك بأن الجمود بالخطاب السياسي والاجتماعي كأهم عاملين من عوامل التنفيذ، سيُنتج نفسه ويكرر ذاته، ويدخل الدائرة المعرفية المغلقة، وهي دائرة جهنمية من دون شك، وتنتظر الأيديولوجيا موتها السريري، الذي سيقودها إلى الانفصال عن التأثير في جهازها التنفيذي، وبالتالي عن الأهداف التي حددتها غاية للأيديولوجيا التي اقتنعت بصلاحيتها. ولأن النظرية لو تم تجريدها من أهدافها، وقابليتها للتنفيذ تتحول ثقافتها إلى ثقافة عبثية مستحيلة التحقيق.
ومن أجل أن تتجاوز الأيديولوجيا أزمتها الراهنة، فهي بحاجة إلى ديموقراطية تتقبَّل الرأي الآخر المولود في داخلها من جهة، وأن تتقبَّل الرأي الآخر الآتي من خارجها وتناقشه بموضوعية من جهة أخرى.