ثقافة وفنون

أجندة الثقافة النيوليبرالية

أجندة الثقافة النيوليبرالية

مروان ياسين الدليمي

الثقافة ليست ثيابا يمكن ارتداؤها وخلعها بكل سهولة، وليست سلعة جاهزة يمكن شراؤها من هنا وهناك. هي مخاض طويل تشكَّل عبر كفاح خاضته المجتمعات وتجذّر في وجدانها وأخلاقها وسلوكها اليومي، وفي أفراحها وأحزانها، ومن خلالها تواجه الحياة بكل تقلباتها، فكيف يمكن إذن بعد ذلك قبول أفكار تدعو إلى تدميرها واستبدالها بأخرى غريبة عنها، وليس بينهما أي نقطة التقاء أو انسجام، ويتم فرضها عنوة؟

شعارات مخادعة

فعندما يُعلن الرئيس بايدن متفاخرا: «اليوم نرسل رسالة واضحة للعالم بأن أمريكا أمة مثلية!» عبر مؤتمر صحافي في منتصف شهر حزيران/يونيو الحالي، ومعه يصطف بهذا التفاخر ساسة الغرب، وعلى وجه خاص قادة مجموعة الدول الصناعية السبع (كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة) فهذا تأكيد على أن قيم الحرية والعدالة والمساواة، التي سبق أن رفعتها الثقافة الغربية نهاية القرن التاسع عشر، باتت اليوم مجرد شعارات مخادعة، وعلى أنها قد انحرفت بشكل حاد في اتجاه بعيد عن محتواها الإنساني.
اليوم أُفرغت هذه القيم التي التقت عندها تطلعات الشعوب في كل مكان، من دلالاتها وأبعادها الاجتماعية والروحية لصالح نزعة مادية متوحشة، ولم تعد سوى حجَّة للتغطية على غطرسة وعنصرية الرجل الأبيض، وليس ضربا من الخيال إذا ما وجدنا في هذا الانحراف إشارة على إفلاسها وانهيارها، مثلما سبق أن نوَّه إلى ذلك في بداية القرن العشرين واحد من أبرز مفكري الغرب، الفيلسوف الألماني أوسوالد شبينغلر (1880 – 1936) وهذا ما جاء في كتابه الموسوم «إفلاس الحضارة الأوروبية الغربية الفاوستية» فقد أدرج في صفحاته تنبّؤاته العلمية حول انهيار الحضارة الغربية الفاوستية (نسبة إلى يوهان فاوست 1480- 1540) معزيا ذلك إلى أن الحضارة الغربية، باعت روحها للشيطان مقابل مكاسب مادية ونعيم استهلاكي، وفق منهج فاوست وتوجيهاته.
قبل مئة عام وجد شبينغلر أن حضارة الغرب في قوتها المادية، على خلاف الحضارات الشرقية ومنها، حضارة العرب المسلمين ايام الدولتين الأموية والعباسية، التي فرضت حضورها الأممي عبر قوّتها الروحية والمعنوية. وفي سياق تنبواءته رأى أن نهاية القرن العشرين ستكون نقطة البداية في مسار انهيارها، وما عبّر عنه بايدن في كلمته دليل على صدق تنبؤات شبينغلر.
إن ساسة الغرب عندما يضغطون بكل السبل على الدول والشعوب الأخرى ويهددونها بالعقوبات الاقتصادية، مثلما هو موقفهم من دولة أوغندا التي جرّمت المثلية، يهدفون إلى خلق مناخ عام أممي يسوده الرعب والخوف، بقصد جرها إلى مستنقع ما يروجونه من مفاهيم غريبة لا تربطها صلة «بالحرية والعدالة والمساواة». وهذا يعني بصريح العبارة فرض وجهة نظرهم العُنصريّة بأحقيّة الرجل الأبيض في السيادة على العالم، واحتقارهم لقيم وثقافات الشعوب غير الغربية.

مفهوم الثقافة

هذه السياسات المدمرة للفطرة الإنسانية ولبنية المجتمعات وفي مقدمتها الأسرة، ما هي إلاّ الوجه الآخر والقبيح، لاستمرار الهيمنة الاستعمارية الغربية، لكن عبر تهديم منظومة القيم الثقافية، وهي دون شك أشد خطورة وفتكا من الاحتلال العسكري المباشر. والثقافة في تعريف الأمريكي إدوارد سابير (1884- 1939) عالم الإنسانيات اللغوي: «مجموعة الممارسات والمعتقدات المتوارثة اجتماعياً، والتي تحدد جوهر حياتنا» بينما توماس ناغل (1937-1980) الفيلسوف الأمريكي يعرف الثقافة بأنها: «القيم المادية والاجتماعية لأي جماعة من الناس، سواء كانت متوحشة أو متمرنة، وهي نظمهم، وأعرافهم، واتجاهاتهم، وردود أفعالهم «فيما بنديكت أندرسون (1936 – 2015) الفيلسوف الأيرلندي يعرفها بأنها: «ذلك السلوك الذي لا يكتسبه الإنسان بالميلاد، والذي لا تحدِّده خلاياه الوراثية مثلما الدبابير أو النمل، لكنه سلوك لا بد أن يتعلمه من جديد الجيل الصغير من الأجيال الأكبر منه».
خلاصة هذه التعريفات تشير إلى طبيعة العلاقة الوثيقة بين المجتمع والثقافة، وأن من غير الممكن أن تكون هناك قطيعة بينهما، فكل منهما يعتمد على الآخر، في حضوره وفاعليته وديمومته، وفي نهاية الأمر، لن يتمكن أفراد أي مجتمع من الاستمرار في العيش معا بأمان واطمئنان، دون شرط الثقافة، لأنها الخزين الثر الذي يوفر القيم والقوانين والأعراف، والحدود التي تضبط حركة وإيقاع الأفراد داخل المجتمع.
إن الأديان كلها، المسيحية واليهودية والبوذية والسيخية، قبل الدين الإسلامي ترفض بنصوصها وتعاليمها الخروج عن الطبيعة الإنسانية وتشويهها. وهي في صلب روافد الثقافة الإنسانية وليس من السهولة انتزاعها منها.

مواجهة ثقافية

في كل الأحوال إذا لم يتبلور موقف موحَّد ورافض تلتقي عنده دول العالم غير الغربية ومجتمعاتها ونخبها المثقفة إزاء هذا التجريف للمفاهيم والقيم، التي هي آخر القلاع التي تحتمي بها من ثقافة التحلل والتخريب، فلا محالة من أن يجرفها هذا السيل بكل شوائبه، ولا غرابة في أن تُفرَض حرية زواج المحارم في يوم مقبل، وربما قريب جدا. والخطوة الأولى في هذا الموقف الرافض، تبدأ في ترصين الخطاب، بما يتم إنتاجه في حقول السينما والتلفزيون والميديا والرواية والشعر والقصة وفي جميع أشكال الإنتاج الثقافي والفني والإعلامي، لأن الحرب تدور رحاها هنا، وهذا ما تكشفه مؤسسات النيوليبرالية في أجندتها الثقافية التي تروج لها وترعاها وتدعمها عبر المهرجانات والملتقيات والفعاليات، سعيا منها إلى تفريغ ذاكرة الشعوب من قضاياها المُلحِّة، وما تواجهه من تحديات تستهدف وجودها وتاريخها وثقافتها.

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب