الأخلاق والعالم المتحضر
رامي أبو شهاب
كيف يمكن أن نقرأ العلاقة بين الأخلاق والحداثة وما بعدها؟ وهل أضافت الحداثة وما بعدها تأطيراً للمفهوم الأخلاقي، ولاسيما مع شيوع مصطلح العالم المتحضر؟ هل حقيقة أن العالم الذي نعيش فيه متحضر أم أنه فعلاً لا يختلف كثيراً عن المجتمعات البدائية، أو ربما قد يكون أكثر بدائية، وأقل إنسانية… فقبل أيام قليلة ألقى الكيان الصهيوني قنبلة على مركز للإيواء في غزة، وكانت هذه القنبلة صناعة أمريكية، وذات مواصفات عالية، شأنها شأن جميع الأسلحة التي قتلت أكثر من 40 ألفاً من الفلسطينيين في عشرة شهور، وكل هذا من صنع العالم المتحضر، وبهذا يمكن أن نقرأ نقداً لهذا التناقض بين الادعاءات الأخلاقية، وقيم التحضر من خلال تصريحات فرانشيسكا ألبانيز مقررة الأمم المتحدة، التي أعلنت بوضوح يفوق شجاعة الكثيرين من سادة العرب والمسلمين أن الفلسطينيين يقتلون بأسلحة أمريكية وأوروبية بتجاهل من العالم المتحضر.
لا شك في أن مقولة العالم المتحضر تكشف عن معضلة المبدأ الأخلاقي، الذي يجعلنا نتساءل، كيف ما زلنا نؤمن بأننا نعيش في عالم متحضر نتج بفعل مقولات التنوير والحداثة، وما بعد الحداثة، والمصطلحان الأخيران يستخدمان لوصف اتجاهات فكرية وثقافية مختلفة في تاريخ الفكر الغربي، الذي صاغ هاتين المقولتين للتعبير عن شيء من القطيعة مع ما سبق، وعلى الرغم من أن الفرق بينهما يكمن في الرؤية للعالم، والأساليب الفنية، والفلسفات الأساسية، غير أن كلا الاتجاهين لم يتمكنا من الإبقاء على إنسانيتنا، بل لم يحولا خلال قرنين من الزمن، دون أن ينتج هذا العالم المتحضر أكبر قدر من الضحايا في التاريخ، إنما على العكس من ذلك، فقد وظفت أدواتهما في إنتاج مجازر ذات طابع منظم.
تؤمن الحداثة بالتقدم والتطور من خلال توظيف العقلانية والعلم، حيث تعدّ الحقيقة موضوعية، وقابلة للاكتشاف من خلال كل من التجربة والمنطق، مع المحافظة على نوع من النظام والاتساق، بيد أن المفارقة تنهض عند تأمل الفلسفة الأساسية التي تنهض على إيمان قوي بالقدرة الإنسانية على تحسين الحياة من خلال العلم والتكنولوجيا والتقدم الاجتماعي، وهي تؤمن -أيضاً- بفكرة «السرديات الكبرى» مثل التنوير، والعقلانية، والتقدم الاجتماعي، غير أن نواتج هذه الأفكار، بدت كارثية حين وظفت هذه التوجهات لتحقيق أكبر قدر من الأذى للمفهوم الإنساني.
بدأت ما بعد الحداثة تقريبا من منتصف القرن العشرين، وقد امتازت برؤية للعالم من منظور مختلف، إذ كانت ترى أن الحقيقة نسبية، وتعتمد على السياقات الثقافية والتاريخية، كما شككت في فكرة السرديات الكبرى، فالمعرفة والحقائق قد تكون مبنية على السلطة والمجتمع، وليس على حقائق مطلقة، غير أن هذا المنظور يبقى جزءاً من توظيف ما يتسق مع المصالح الغربية، على الرغم من الادعاءات المغايرة، وبذلك فإن هاتين المقولتين، وفي كلا الاتجاهين خضعتا لتفسير غربي، وبينهما تكمن الاستثناءات، حسب المعايير الغربية التي تخلق سرديات، وتقصي سرديات، لكنها تبقى ضمن مبدأ القوة المعرفية، ومنها السردية الصهيونية التي تُبقي على مركزيتها في الثقافة الغربية، ضمن مبدأ الحداثة بوصفها سردية ثابتة، لكنها تشكك بالسرديات الأخرى من منظور ما بعد الحداثة، أو إقصاء ما عدا ذلك، لاسيما ما يتعلق بالآخر.
إن موقفي الحداثة وما بعد الحداثة من الأخلاق، يعكس رؤيتهما العامة للعالم والإنسان، في حين يبرز الفرق بينهما في كيفية التعامل مع تفسير القيم الأخلاقية، فالأخلاق ضمن سياق الحداثة تنهض على مبادئ موضوعية وشاملة، يمكن تطبيقها بشكل عام على جميع البشر- باستثناء الكيان الصهيوني – إذ تعتمد الأخلاق في الحداثة على مبادئ عقلانية، مثل الحرية، المساواة والعدالة، وبذلك فإن الأخلاق هنا ترتبط بفكرة التقدم البشري، وتحسين المجتمع من خلال تطوير قواعد، ومعايير أخلاقية ثابتة، غير أن هذه المقولات تتهاوى أمام سردية الصهيوني، فتُتناسى الفلسفات الأخلاقية للكانطية، التي ركزت على الواجب الأخلاقي والمبادئ العامة التي يجب أن تحكم سلوك الأفراد أو الجماعات، غير أن السردية الصهيونية تتعالى على ذلك، ولا تخضع لأي تقييم أخلاقي من قبل الغرب الذي يحافظ على وجود آخر نظام فصل عنصري في العالم.
في حين تتسم ما بعد الحداثة بتقدير قيم الشك العميق في المفاهيم الأخلاقية الشاملة والمطلقة، حيث ترفض فكرة وجود أخلاق موضوعية أو عالمية يمكن تطبيقها على جميع الثقافات والأفراد، بل على النقيض من ذلك تنظر إلى الأخلاق على أنها مسألة نسبية تعتمد على السياقات الثقافية والتاريخية والاجتماعية، وهذا يتوافق مع ما تراه السردية الصهيونية، إذ تقدم لها العقلية الغربية التقييم الأخلاقي المطلوب، فكلاهما نتاج تفسير الحداثة، وكلاهما ينطلقان من فلسفة استعمارية تكونت عبر منظور حداثي، جاء نتاجا للتفاعل بين القوة والمعرفة، وبذلك يتم تشكيل القيم الأخلاقية من خلال الديناميكيات الاجتماعية والثقافية، وليس من خلال مبادئ عقلانية ثابتة، فالأخلاق تُرى على أنها متغيرة، وغير ثابتة، كما أنها تتأثر بالتحولات الثقافية والسياسية، لنصل هنا إلى التفسير ما بعد الحداثي للأخلاق.
وما بين المفهومين، النسبي والمطلق، يخضع العالم برمته، بما في ذلك مقولات العالم المتحضر للتفسير الغربي، ومنه خدمة الخطاب الصهيوني، وأفعاله، فالضحايا من غير اليهود ليسوا بشراً، بل لا يخضعون للتقييم الأخلاقي للعالم المتحضر، حتى لو وصل عدد القتلى إلى أكثر من أربعين ألف، غير أن ضحية واحدة تنتمي للقوى الغربية أو الصهيونية، فإن العالم سيكون أمام اختبار أخلاقي كبير، ولعلنا يمكن أن نتأمل خطابات الساسة الغربيين، ومنطقهم في كيفية تقييم المنظور الأخلاقي تبعاً لهذه المنطلقات، ولاسيما الساسة الغربيين، ومنهم وزير الخارجية الأمريكي، ومنسق الشؤون الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.
لا شك في أن مبدأ الحداثة التي سعت إلى بناء نظام أخلاقي عالمي يعتمد على مبادئ عقلانية، حيث يكون الإنسان قادرا على تشكيل مستقبله الأخلاقي من خلال العقل والاستقلالية، تبعاً لأفكار إيمانويل كانط لا تنسحب على غير الغربي، في حين أن الحرية والمساواة هما الأساسان اللذان يبني عليهما الإنسان أخلاقه في الحداثة، وتحقيق التقدم الإنساني بالتضافر مع تحقيق العدالة الاجتماعية ضمن مبادئ التنوير، غير أن ذلك قاصر فقط على العالم الغربي، ومحظيته الصهيونية، ولا ينسحب على سائر الشعوب الأخرى، التي ينبغي لها أن لا تعرف الحرية والاستقلالية، وهذا واضح من خلال مبدأ الغرب، وسياسته في دعم الديكتاتوريات، ومساندة أنظمة فاسدة.
ولعل هذا يقودنا إلى القول إن الأخلاق ضمن خطاب الحداثة وما بعدها، لا تتبع مقولة واحدة أو شاملة، إنما هي بناء ثقافي واجتماعي وسياسي يتشكل من خلال القوة والخطابات – حسب ميشيل فوكو- وبذلك فإن هذا يستجيب للسلوك الغربي، ونمط مصالحه، فبينما تسعى الحداثة إلى تأسيس نظام أخلاقي يعزز من رفاه الإنسان والحرية والعدالة من خلال التقدم العقلاني، تأتي ما بعد الحداثة لتفكك هذا النظام لتؤكد على نسبية الأخلاق، وتعددية الحقائق، وكلا المنظورين ينبغي أن يكونا في خدمة المصالح الغربية، وعلى رأسها تبرير جرائم الكيان الصهيوني.
كاتب أردني فلسطيني