مقالات

العالم بين سياسة الاحتقان واستراتيجية المحقان – بقلم د. رياض العيسمي

بقلم د. رياض العيسمي

العالم بين سياسة الاحتقان واستراتيجية المحقان
د. رياض العيسمي
سياسة الاحتقان
لا يختلف إثنان على أن العالم يعيش اليوم حالة من الاحتقان الذي ينذر بالانفجار في أي وقت وفي أي مكان. فالشرعية الدولية التي تمثلت بمجلس الأمن الذي فرضته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، قد سقطت في عام ٢٠١٢ مع التصويت على أول قرار بخصوص الأزمة السورية. وذلك عندما تحالفت روسيا مع الصين واستخدمتا الفيتو ضد مشروع القرار الذي تبنته الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. وأعيد تكرار المشهد في كل القرارات التي صدرت لاحقا حول الأزمة السورية. ومنذ ذلك الحين تحولت الأزمة السورية من مجرد أزمة محلية وإقليمية عابرة إلى أزمة عالمية حاسمة. دخلت في ميزان الصراع الدولي والإقليمي. وهذا ما حفز الصين وروسيا لاحقا على تحدي هيمنة الولايات المتحدة على العالم وقياس ردة فعلها. ففي عام ٢٠١٣ اطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة الحزام والطريق التي هدفها الاساسي السيطرة على التجارة العالمية والوصول بالاقتصاد الصيني إلى وضع ينافس الاقتصاد الأمريكي الذي يحتل المرتبة الأولى في العالم. كما واستغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقيدة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الرافضة للحروب واحتل شبه جزيرة القرم في مطلع عام ٢.١٤. وفي نفس العام لاحقا ظهرت داعش للوجود. وأصدرت الأمم المتحدة قرارا بالحرب عليها. وأيدت القرار كل من روسيا والصين. وكان هذا القرار هو القرار التوافقي الوحيد بين القوى الدولية والإقليمية مجتمعة. وبحيث اجتمعت جميعها لمحاربة داعش في حرب عالمية في سورية والعراق. وكأن داعش جاءت من دولة المريخ عبر إنزال جوي بجيش جرار مدجج بكل أنواع السلاح وتملك اقتصاد يضاهي اقتصاديات دول الأرض. وتحولت الحرب على داعش لاحقا من حرب مباشرة إلى حرب بالوكالة بين الأقطاب المتصارعة للاستحواذ على مناطق النفوذ الإقليمي في المنطقة، والباحثة عن دور فاعل في النظام العالمي الجديد. وكما استدرج الرئيس أوباما الرئيس بوتين بقواته العسكرية إلى سورية عام ٢٠١٥ بغرض احتواء أزمة القرم واستنزافه، جره الرئيس بايدن لغزو أوكرانيا عام ٢٠٢٢، بغرض استنزافه من جديد واحتواء أزمة سورية. لقد بات من الواضح بأن الولايات المتحدة أصبحت تنتهج سياسة الاحتقان والتي تتمثل باستنزاف الأعداء واحتواء الأزمات. والتي تدخل بموجبها الأعداء والأصدقاء في حروب لايربح فيها الأعداء ولا يهزم فيها الأصدقاء. وهي تراقبها بحذر وتدير عملية الاستنزاف. وهذا قد ينسحب على الصين وتايوان، كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. وكذلك إسرائيل وإيران. ففي الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة تجديد تخويلها على مناطق النفوذ في العالم والذي منحها إياه انتصارها الكبير في الحرب العالمية الثانية، تحاول روسيا والصين فرض الأمر الواقع على الولايات المتحدة وإبعادها عن هذه المناطق ودفعها إلى الوضع الذي كانت عليه قبل دخولها الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٢. وذلك بحكم انتهاء الحرب الباردة وانتهاء صلاحية التخويل الذي حصلت عليه الولايات المتحدة بمفاعيل نتائج الحرب.
استراتيجية المحقان
إن حالة الاحتقان التي يعيشها العالم اليوم هي بسبب سياسة الاحتقان التي تمارسها الدول المتصارعة على فرض نظام عالمي جديد يخلف النظام القديم الذي فرضته نتائج الحرب العالمية الثانية. وفي ظل غياب التوافق بين الدول المتصارعة، وتحديدا الولايات المتحدة والصين، تصبح الحرب العالمية الثالثة ضرورة يقتضيها فرض النظام العالمي الجديد بالقوة كما فعلت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وفي ظل تفاقم وتعقد الأزمة السورية واستعار الحرب في أوكرانيا وتصاعد التأزم في بحر الصين الجنوبي وتايوان، يصبح وقوع هذه الحرب المتشظية أكثر احتمالا. وبالمقابل إن التوافق في ظل سياسة الاحتقان، يحتاج إلى آلية لتنظيم عملية تنفيس الاحتقان، والتي كنت قد أطلقت عليها في كتابي باللغة الإنكليزية حول التنافس الجيواستراتيجي والنظام العالم، والذي سيصدر بنسخته الاليكترونية في شهر أيلول القادم، استراتيجية المحقان أو القمع، والتي تعرف بالإنكليزية ب (Funneling Strategy). أي عملية تنظيم الاحتقان والفلترة أو التصفية. ومفادها بأن الدول هي كما المركبات تحتاج إلى محرك يدفعها للسير إلي الأمام. وهناك عربات كبيرة ذات محرك كبير يحتاج إلى قوة دفع كبيرة. ومركبات صغيرة تحتاج إلى قوة دفع أقل. ولكنه في كل الأحوال لا يستطيع المحرك العمل بانتظام دون وجود الوسط المحفز للعمل فيه، والذي يتمثل بزيت المحرك. ويستخدم المحقان أو القمع (Funnel) عادة لملئ المحرك بالزيت المطلوب.
آلية عمل استراتيجية المحقان
إذا كان حلف الناتو قد اسس لمجابهة الاتحاد السوفييتي، والاتحاد السوفييتي قد سقط وتفكك. إذن لم يعد هناك ضرورة لوجود هذا الحلف في النظام العالمي الجديد. وإذا كان مجلس الأمن قدد ضم الدولة الخمسة الأقوى في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الاتحاد السوفييتي الذي حلت محله روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١-١٩٩٢، والصين الشعبية التي حلت مكان تايوان(الصين الوطنية) بعد اعتراف الولايات المتحدة بالصين الواحدة عام ١٩٧٢، فلماذا لا تدخل مجلس الأمن الجديد اليابان التي أصبحت ثالث اقتصاد في العالم وألمانيا رابع اقتصاد. وإذا كان الاقتصاد هو مقياس قوة الدول لأنه هو المحرك الأساسي لنمو وتطور الدول، كيف إذن تكون روسيا دولة عظمى واقتصادها رقم ١١ في العالم وتأتي بعد كوريا الجنوبية في المركز العاشر؟ وكيف لا يكون للهند كلمة في النظام العالمي الجديد وهي التي أصبحت تحتضن أكبر عدد سكان في العالم، مليار و ٤٢٩ مليون متفوقة بذلك على الصين ب ثلاثة ملايين. إن مرحلة الحرب العالمية الثانية قد انتهت ولم تعد للولايات المتحدة القدرة على فرض مفاعيلها كما تشاء. فكيف للصين أن تقبل بسيطرة الولايات المتحدة على شرق آسيا وفي بحر الصين الجنوبي. وشبه الجزيرة الكورية انقسمت بسبب النتائج التي فرضتها الحرب العالمية الثانية في الصراع بين الولايات المتحدة الرأسمالية والاتحاد السوفييتي الشيوعي. والشيوعية كنظام حكم لم تعد موجودة، وجميع دول العالم تسعى اليوم إلى تنمية وتنويع اقتصادياتها بما يتناسب مع اقتصاد السوق. فإذا وافقت الولايات المتحدة على سحب قواتها من المنطقة الفاصلة بين الكوريتين والتي تعدادها بحدود ٣٠ ألف، لا أعتقد بأن الصين وروسيا يمانعان التخلي عن نظام كوريا الشمالية الشيوعي وبما يمهد لإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية. وعلى ألا تكون معادية للصين وروسيا وأن لا تتنكر للصداقة مع الولايات المتحدة. وأيضا لا بد من إعادة ترسيم الحدود الدولية في منطقة بحر الصين الجنوبي وبما يضمن حق الصين فيه ويسهل حركة الملاحة الدولية.
إن تسوية الصراع المحتدم بين الصين والولايات المتحدة لا بد وأن يكون على أساس عملية تنفيس وتنظيم الاحتقان، والفلترة لمناطق النفوذ في العالم بين القطبين الكبيرين. وبحيث يكون كل قطب متعدد الأقطاب بحكم الوزن النوعي والموقع الجغرافي والمحيط الآمن. وهذا ما سيحول الصراع بين الشرق
و الغرب الذي كان سائدا ابان الحرب الباردة إلى تفاهم استراتيجي بين الشمال والجنوب. وبهذا يكون الشمال بقيادة الولايات المتحدة ويضم بشكل أساسي أمريكا الشمالية وبريطانيا. والقطب الجنوبي بقيادة الصين ويضم روسيا وبقية دول أوروبا. وتبقى الهند كما كانت دولة عدم الانحياز وبيضة القبان بحكم موقعها الجغرافي وعدد سكانها ونظامها السياسي ونموها التقني والاقتصادي. هذا بالرغم من أنه في الاسبوع الماضي استقبل الرئيس بايدين رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي في حفل مهيب على سجاد أحمر في واشنطن وأقام له حفل عشاء رؤساء الدول في البيت الأبيض طمعا في كسب ولاء الهند في الصراع الأمريكي مع الصين. لكن مودي فاجئ الحضور في خطابه في الكونغرس الأمريكي بقوله: إذا كنتم لا تعرفون عظمة الهند وعبقرية أبنائها، انظروا خلفي. حيث كانت تجلس نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس ذات الأصول الهندية. ولا ننسى أيضا رئيس وزراء بريطانيا رشي سوناك. والرؤساء التنفيذيين لمعظم الشركات الكبيرة والمهمة في الولايات المتحدة وبريطانيا، والعالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب