
لقد سرقوا منا حتى دمعة عاشوراء
موفق الخطاب
منذ ما يزيد عن نصف قرن وعندما كنا أطفالاً لا نفقه شيئا عن المذاهب واختلافاتها، ومنذ ذلك الحين تشكلت عند الكثير من أبناء جيلنا صورة مؤلمة بعد أن سمعنا وقرأنا وقص علينا آباؤنا واقعة الطف في كربلاء الحزينة ، فكنا نتألم ونتفاعل معها ونصطف كل عام ومنذ ساعات الفجر مع مجموعة من الصبية على جانبي الطريق في بغداد، لنحيي جمهور الزوار المتوجه بعضهم إلى كربلاء سيرا على الأقدام والآخرين إلى مرقدي الإمامين الجوادين عليهما السلام، عبر جسر الأئمة في مدينة الأعظمية، لإحياء تلك الواقعة وأخذ الدروس منها و العبر ، وكانت عجائزنا يسهرن الليالي لإعداد الطعام للزوار بقدور كبيرة يوقد تحتها النيران في الأزقة لضخامتها، وكان هذاالعمل أشبه بفرض عين و واجب على الجميع من كل عام.
وبعد أن يجتاز جموع الزوار الجسر بيسر وسلام نعود إلى بيوتنا منهكين لنتفاجئ أنها حزينة كساكنيها يلفها السواد و الصمت والحزن وكأن على رؤوس أهلها الطير، ولا نسمع إلا هدير المذياع الذي يبث واقعة الطف بصوت شجي للراحل عبد الزهرة الكعبي، وكانت دموعنا البريئة تنهمر عند مشاهدتنا لدموع آبائنا وأمهاتنا وهي تجري ساخنة من مقلهم، تفاعلاً مع الرادود وهو يقص بغصة تفاصيل تلك الفاجعة التي تفطر الحجر وتبكي الشجر.
ومضت بنا السنون سريعاً ونحن على هذا المنوال، إلى أن كبرنا وتصلب عودنا ومن خلال شبكة علاقاتنا ومقاعدنا الدراسية وحلقات العلم وإطلاعنا على الكتب الفقيه المعتدلة علمنا أن هنالك من يتعبد على طريقة أهل السنة والجماعة، ويطلق عليهم «أهل السنة والجماعة»، ومنهم من يتعبد على المذهب الجعفري ويطلق عليهم «الشيعة الجعفرية أو الإثني عشرية»، لكن كل ذلك لم يمنع اندماجنا مع بعض وتزاورنا، وكم من مرة ذهبنا بمعية زملاء لنا إلى كربلاء والنجف للمشاركة في الزيارة سواء في مناسبة عاشوراء أو غيرها من المناسبات الدينية، وما أروع اللحمة التي كانت بيننا وهي في أوج عظمتها ليتحفونا هم وأهاليهم بكرمهم الحاتمي وجودهم العربي.
ولا أتذكر أبداً أني شاهدت في كربلاء والنجف ولا في غيرها من مراقد الأئمة في الكاظمية أو الإمامين العسكريين عليهم السلام أو أي مزار للشيعة أو أي حسينية أو مأتم مشاهد الدماء التي تتفجر من ضرب الرؤوس بالآلاف الحادة و جلد الظهور العارية و شق رؤوس الأطفال الرضع دون ذنب مثلما يحدث اليوم، ولم يعلق في ذاكرتي أبداً أني سمعت ما يمس بالسوء لأي ملة و مذهب أو شخصية أو رمز إسلامي، ولم نسمع تصريحاً ولا تلميحاً بتجريح أي خليفة أو صحابي و تابعي أو الانتقاص من شأنهم، أو قذف لأمهات المؤمنين رضوان الله عليهم. إلا في هذه الأيام العصيبة التي يمارسها من لا يفقه من مذهبه ولا من باقي المذاهب شيئا، وهي بالتأكيد روايات ضعيفة و تتعارض مع نهج آل البيت عليهم السلام .
وبعد مرحلة عمرية أخرى وانخراطنا في العمل الوظيفي، تعمقت علاقاتنا مع إخواننا الشيعة، وأخذت منا منحى آخر، فمنا من تصاهر معهم، ومنا من أسس لعمل تجاري مشترك، ومنهم وعلى ندرتهم من لعبت بعقلهم الكتب الصفراء وابتعدوا عنا كلياً ، لكنهم قد أبقوا على شعرة معاوية في العلاقات الاجتماعية ،إلى أن حدثت الكارثة والطامة الكبرى، وسقط العراق في براثن الاحتلال الأمريكي .
برز عندها دور المؤدلجين من الطائفتين بعد أن اندثر أو عزل أهل العلم والدراية والاعتدال من الفريقين ليزيحوا المثقفين والمعتدلين وليؤسسوا لمرحلة جديدة ضاعت معها كل المعالم الجميلة والعلاقات الحميمة واللحمة الدينية والوطنية، فتحولت بسببهم هذه الواقعة العظيمة التي كانت نقطة اجتماع وتآلف واستذكار لقيم الشجاعة والبطولة والتضحية والإيثار لسيرة سيد الشهداء عليه السلام العطرة الى حدث يؤسس للفرقة وزرع الفتنة والأحقاد والحث على الانتقام والثأر وبث الكراهية، لقد سرقوا منا حتى براءة ودمعة عاشوراء .
لتتحول الى مناسبة يشحن من خلالها السياسي وبعض المؤدلجين الجماهير الزاحفة الملتفة بالشعارات ويؤججوا مشاعرهم بخطب رنانة فيها من العويل والتمثيل والبكاء المصطنع بتزوير متعمد للحقائق التاريخية وتحميل جموع الأمة الاسلامية وزر استشهاد الإمام الحسين عليه السلام .
وهذا هو ديدنهم اليوم مسخٌِرين جراحات الأمة ونكباتها لتنفيذ مآربهم، والغريب أن بعضهم علماني والآخر غارق الى الأذقان في الإلحاد والإجرام والفساد والمجون !!
تاركين ورائهم بلدا مدمرا وشعبا يئن من جور حكمهم وفسادهم وما زالوا يستغفلون البسطاء وينبشون في خلافات قد عاف عليها الزمان وهي من وحي عقولهم المريضة وهي لا تسمن ولا تغني من جوع .
سلام عليك يا سبط رسول الله يوم ولدت ويوم فاضت روحك شهيدا ويوم تبعث حيا ..