مقالات

عندما تتوسع مساحة الشغور الرئاسي في لبنان طليعة لبنان

طليعة لبنان

عندما تتوسع مساحة الشغور الرئاسي في لبنان

29-07-2023

مرت فترة التسعة أشهر على انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، والبلد ما زال واقعاً تحت وطأة الشغور الرئاسي دون أن تلوح في الأفق أية مواعيد محددة لإنجاز هذا الاستحقاق الدستوري الذي بات تعطيله مشهداً مألوفاً في الحياة السياسية اللبنانية. والمشكلة لم تعد كامنة في انحصار الشغور في هذا المرفق الدستوري الذي يعتبر الأول في تراتبيات المؤسسات الدستورية، بل بات الشغور العملي يغطي غالبية المرافق والمؤسسات ذات الصلة بإدارة الشأن العام، تعلق الأمر منها بالشأن السياسي أو النقدي أو المالي أو الإداري أو تعلق بمرافق خدمات النفع العام. وهذه الحال لم يشهد لبنان مثيلاً لها حتى في أقسى الظروف الأمنية والسياسية وحتى المالية التي مر بها منذ تشكلت دولته مروراً بكل الحقب السياسية التي عبرها من مرحلة الانتداب إلى مدى “الحقبة الاستقلالية”.
وإذا كان موقع الرئاسة الأولى ما زال شاغراً مع ما لذلك من تأثيرات سلبية على الانتظام العام، فإن مجلس الوزراء الذي تناط به السلطة التنفيذية ليس في وضع طبيعي، إذ إنه يمارس وظيفته في النطاق الضيق لتصريف الأعمال، ومثْله المجلس النيابي الذي لم يمارس دوره كما يفترض به كهيئة ناخبة لانتخاب رئيس للجمهورية وفق ما نص عليه الدستور، بل مارس سياسة تقطيع الوقت باعتبار أن لحظة “القطاف الرئاسي” لم تنضج بعد بانتظار صفقة مقايضة دولية إقليمية يجري طبخها في الكواليس. وما ينطبق على هذا المجلس كهيئة ناخبة ينطبق عليه أيضاً كهيئة تشريع في ظل تباين وجهات النظر حول دوره التشريعي في ظل الشغور الرئاسي.
من هنا، فإن المرفق الدستوري بكل مؤسساته، إما معطّل بسبب الشغور وإما بحكم المعطّل بحكم تجاذبات المواقف وانشدادها إلى دوائر المصالح الفئوية على حساب المصلحة الوطنية العليا. ومن المرفق الدستوري بكل مؤسساته إلى المرافق الأخرى التي لا تنتظم الحياة العامة دون انسيابية طبيعية في سير أعمالها، ُتشكل عملية الشغور الحاصلة في موقع حاكمية مصرف لبنان، واحدة من الإشكالات الكبرى التي يواجهها لبنان حالياً، نظراً لأهمية الموقع في إدارة الشأنين المالي والنقدي. وبعد وقت ليس بالبعيد ستطرح إشكالية الشغور في موقع قيادة الجيش، بعد الإحالة الحكمية لقائده الحالي على التقاعد، وقس على ذلك شغور مواقع أساسية في هرمية الإدارة السياسية والمالية والعسكرية والأمنية بعد تعذر تعيين بدلاء عن الذين انتهى إشغالهم لمواقعهم لبلوغهم السن القانونية.
إن الشغور في موقع رئاسة الجمهورية وهو الموقع الذي يشكل صمام أمان دستوري لانتظام الحياة العامة، أحدث ندوباً في الجسم السياسي، والشغور في موقع حاكمية المصرف المركزي وهو الموقع الذي يفترض فيه أن يشكل صمام أمان نقدي، لن تكون تداعياته السلبية بأقل من تلك الناجمة عن الشغور الرئاسي، نظراً للدور الذي يؤديه المصرف المركزي في ضبط السوق النقدي تحاشياً لتفلته في ظل حالة تفلت سياسي باتت سمة من سمات الواقع اللبناني منذ أصبح التعطيل عرفاً يمارس على قاعدة “المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً”. وإذا ما أضيف إلى الآثار السلبية الناجمة عن الشغور في موقعي صمامي الأمان الدستوري والنقدي، تلك الناجمة عن شغور موقع صمام الأمن الوطني، فإن إطالة أمد الشغور في هذه المواقع الثلاث، سيدفع إلى تفلت عام لن يترك جانباً من جوانب الانتظام العام لإدارة مرافق الدولة بمعزل عن تأثيراته السلبية وخاصة مضاعفتها المعيشية في ظل الانهيار المتواصل دون قعر للعملة الوطنية.
إن إطالة أمد الشغور في المفاصل الأساسية لبنية الدولة سيؤدي إلى توسيع مساحة الشغور لتطال المواقع الأدنى في التراتبية المؤسساتية، وهذا يؤشر إلى تحلل الدولة كصيغة متقدمة من صيغ إدارة الاجتماع السياسي. وعندما تنهار الدولة، فإن الانهيار لا يقتصر على جانب دون آخر من تلك التي تشكل الهيكل العام للدولة كما وظائفها المناطة بها.
إن البناء ينهار عندما تتقوض ركائزه، والدول كذلك. حيث إن الانهيار الدستوري سيؤدي حكماً إلى خسارة الدولة لمركزها الدستوري والقانوني باعتبارها الشخص الأهم من بين أشخاص القانون العام، ومع انهيارها تنهار منظومة المفاهيم والأعراف والتقاليد والأحكام الناظمة لسير المجتمع وتحل محلها مفاهيم كانت سائدة في مراحل ما قبل قيام الدولة، حيث كانت تسود المفاهيم والتقاليد والأعراف القبلية والعشائرية، والأحكام الناظمة لعلاقات الجماعات قبل اندماجها في المشروع الأوسع الذي يخضع لقوانين وقواعد ناظمة له والذي باتت تعرف باسم الدولة بحسب ما عرفّها القانون الدستوري. وهذا ما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته وتناوله النتائج السياسية والاجتماعية الناجمة عن انهيار الدولة والمفاهيم التي تسود حيث يقول: عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون، والكتبة والقوّالون والمغنون النشاز والشعراء النظّامون والمتصعلكون وضاربو المندل، وقارئو الكفّ والطالع والنازل وقارعو الطبول والمتفقهون والمتسيسون والمداّحون والهجاءون وعابرو السبيل والانتهازيون، وتتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط. ويضيف، وعندما تنهار الدول، يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف وتظهر العجائب وتعم الشائعات… ويصبح الانتماء إلى القبيلة اشدّ التصاقاً، وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان. وكأن ابن خلدون يعيش اللحظة التي نحن فيها، وما تناوله في مقدمته عن حال الدول عند انهيارها، يعيد الاعتبار لحقيقة أن التاريخ يعيد إنتاج نفسه على مستوى إدارة الاجتماع السياسي إذا ما توفرت ذات المعطيات الموضوعية والذاتية. ومن يأخذ بتوصيف ابن خلدون على شموليته يستنبط مفردات تعكس طبيعة الحال السائدة في لبنان حالياً. ومن هذه المفردات ما يندرج تحت عنوان البدع. والبدع على أنواع، منها ما يتعلق بأنماط العلاقات والمفاهيم الشعبية، ومنها ما يتعلق بأنماط العلاقات السياسية والدستورية. وإذا كان من بلد شهد ويشهد سيلاً من البدع الشعبية كما بدعاً سياسيا ودستورية، فإن لبنان يحتل مراحل متقدمة في ميدان هذا التصنيف أسوة بحلوله في مراتب متقدمة في تصنيفه كموئلٍ للفساد بكل أشكاله وأنماطه.
إن لبنان وقبل أن تصل مرحلة الانهيار في بنية الدولة إلى ما هي عليه الآن، فإن كثيراً من البدع الدستورية عُمِلَ بها، وأصبحت بمثابة العرف. واليوم مع تمادي مساحة الشغور وتحلل بنية الدولة تسود بدع يتم تداولها كمخارج من المأزق الدستوري- السياسي القائم ومنها الدعوة إلى اعتماد الفدرالية كنظام دستوري للبنان.
إن الذين يدعون إلى الأخذ بالفدرالية كنظام دستوري للبنان، يدركون جيداً أن هذا الطرح لا يمكن أن يؤخذ به، ليس لأن ثمة معارضة واسعة له وحسب، بل لأن ما يتطلبه النظام الدستوري الفدرالي من مواصفات ليست متوفرة في لبنان، ولهذا فإن وضع هذا الشعار قيد التداول السياسي مع القناعة باستحالة قيام مثل هذا النظام، إنما يعبّر في جانب منه، عن عجز في مواجهة تحديات تحول دون إعادة الاستنهاض الوطني في ظل ما يتعرض له من إطباق دولي وإقليمي وتثقيل سياسي وعسكري واقتصادي ممن يتخذ من ساحة لبنان منصة لإدارة مشاريع على مستوى الإقليم. هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية، فإن الفدرالية كنظام دستوري يؤخذ به في العديد من دول العالم، لا تصح لكل زمان ومكان، وهي تعتمد أساسا في الدول المركبة وليس في الدول البسيطة التي منها لبنان.
إن الدعوة للفدرالية هي دعوة مبطنة للتقسيم، كما الدعوة إلى إعادة النظر بالنظام الإداري والتوسع بمفهوم اللامركزية الإدارية التي أكد عليها اتفاق الطائف إلى شموله بما يسمى باللامركزية المالية. علماً أن ثمة لامركزية مالية تمارسها البلديات بحكم الصلاحيات الممنوحة لها بموجب القانون لناحيتي الجباية والإنفاق. أما توسيع مفهوم اللامركزية الإدارية ليشمل الجانب المالي جبايةً وانفاقاً، فهذا لا يبرره التفاوت في عمليات الجباية بين منطقة وأخرى، لان الجباية العامة تعود إلى الميزانية العامة، وهي بدورها تتولى الإنفاق على القطاع العام. وخاصة قطاع الموظفين في الإدارة العامة وقطاعات الجيش والأجهزة الأمنية. وهؤلاء يؤدون خدمة عامة يستفيد منها المواطنون على قدم المساواة، ودون تمييز بين منطقة وأخرى. وإذا كان الذين يدعون إلى جعل المناطق تستفيد بنسبة جباياتها، فماذا يقولون عن المناطق التي تغذي بعناصرها، الإدارة العامة بقاعدتها العريضة والقوى الأمنية على مختلف تشكيلاتها، وهم الذين يقع عليهم عبء تسيير المرفق الإداري، وعبء توفير الحماية للأمن الوطني والمواطن.
إن الأخذ بمنطق تخصيص المناطق الأكثر جباية وتغذية للمالية العامة بالإنفاق عليها غُنْماً، يقود إلى الأخذ بقاعدة القياس على الغنم الإداري والأمني حيث إن المناطق الذي توفر تغذية أوسع بإعدادها للإدارة العامة وللقوى الأمنية يفترض حينئذٍ أن تستفيد أكثر من غُنْم الخدمات الإدارة والأمنية على مستوى أمن المواطن والأمن الوطني. فهل بهذه العقلية تنصهر المجتمعات وتبنى الأوطان.؟
إن الدعوة إلى الفدرالية كنظام دستوري هي دعوة عاجز وخائف، وهي دعوة هروب إلى الأمام وتستبطن نزوعاً نحو التقسيم، وهذا لا يشكل تعارض مع ما نص عليه الدستور في مقدمته، بل يشكل أيضا مقتلاَ للبنان الواحد الموحد، ودعوة للانعزال كما دعوة العزل وهي دعوة رفعتها القوى الوطنية سابقاً واعترفت بخطئها، ونربأ أن لا يندفع بعض اللبنانيين إلى الوقوع في هذا الخطأ المميت.
إن الذي حرك مثل هذه النوازع هو انهيار الدولة، والرد لا يكون بالعودة إلى ملاذات الحماية بالطائفة والمذهب، بل بالعمل المديد دون كلل أو ملل لإعادة الاعتبار للدولة كهيئة معنوية اعتبارية يناط بها حصراً إدارة الاجتماع السياسي. وهذا ما بات يحتل الأولوية في الجهد الوطني، وملء الشغور في الإدارة السياسية والعامة هي أقصر الطرق لوضع حدٍ لتوسع حالات الشغور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب