
“بدلة إنكليزية وبقرة يهودية”.. سرديّة مُغايرة حول النكبة!
بديعة زيدان:
بالبناء والمراكمة على مقابلات شخصية أجرتها في العام 2018، مع صبحي (88 عاماً) في عمّان، وشمس (85 عاماً) في يافا، خرجت الكاتبة الفلسطينية سعاد العامري، بروايتها الجديدة “بدلة إنكليزية وبقرة يهودية”، والصادرة بالعربية عن منشورات المتوسط في إيطاليا، بترجمة لصاحبة الرواية والشاعرة هلا الشروف.
ورغم أن روايات عدّة تناولت “النكبة” كحدث مفصلي في التاريخ الفلسطيني، إلا أن أسلوب العامري، وتركيبها للشخصيات والأحداث، وإن كانت مستمدة من الواقع، يجعل ممّا تكتب حدثاً سردياً مُغايراً، فمآلات شخوص الرواية المحورية تعكس الحال الذي وصل إليه الفلسطيني، ليس في تبعثر جغرافياته المكانية على أرضه الداخلية، وليس في تبعثر حيواته في جغرافيات العالم كله فحسب، بل في تشتت جغرافيا الروح داخله، واندثارها ما بين يافا، وغزة، وعمّان، ومخيم نهر البارد لللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وغيرها.
ولا يمكن تخصيص وصف رواية “بدلة إنكليزية وبقرة يهودية” باعتبارها رواية مكان، أو رواية زمان، أو رواية شخوص، أو رواية حدث، فهي خليط من كل هذه التصنيفات، بحيث كان لها نكهتها الخاصة، ليس بعيداً عن حكايات اللجوء والشتات وما قبلها وما بعدها، منذ الإهداء “إلى أبي، وإلى اللاجئين جميعهم الذين قضوا في الشتات، مُنتظرين العودة إلى الوطن“.
وتدشّن العامري روايتها بحكاية “صبحي” الذي تصفه بـ”أشطر ميكاكيني في يافا”، لتعود بنا عبر آلة الزمن السرديّة هنا إلى تموز من العام 1947، فابن الخامسة عشرة هذا يعمل أجيراً في كراج العم مصطفى، مع أن والده يملك بيّارة برتقال “الذهب الأصفر”، كما كان يصفه، في حين كانت “شمس” هي مؤشر دقّات قلبه، بل “شمسه“.
يعجز “الخواجا ميخائيل” في إيجاد من يُصلح له مضخة الماء الخاصة بمزرعته، ويَعدُ صبحي لو نجح في المهمة التي عجز عنها الآخرون بشراء “بدلة” له محاكة من صوف إنكليزي شهير، وهو ما كان له بالفعل.
وفي خضم سرد حكاية “صبحي” و”الخواجا ميخائيل”، تتناول العامري حكايات من ثورة العام 1936 الشهيرة، وما رافقها من إضراب اقتصادي، والمخاوف من إضراب مشابه في صيف 1947 يعود بالبلاد إلى الكساد، دون أن يدري “صبحي” أن البلاد لن تعود بعدها، ولو إلى حين، كما تتحدث عن “سوق اليهود” تسميةً وموقعاً، دون إغفال “التوترات المتصاعدة، والمناوشات والقتال بين العرب واليهود في الأشهر الأخيرة، فمنذ أعلن الإنكليز عن نيّتهم إنهاء الانتداب على فلسطين، وسحب قواتهم منها خلال العام، صعّدت العصابات اليهودية المسلحة، مثل الهاغاناه وإيتسل وليحي، هجماتها على الأماكن التي يتجمع فيها الفلسطينيون، كالمقاهي ودور السينما، والأحياء العربية المحاذية للمستوطنات اليهودية، مثل سكْنة أبو كبير في الشّمال، وسكْنة درويش وتل الريش في الجنوب، وأيضاً في الأجزاء الجنوبية من حيّ المنشيّة، حيث تعيش أسرة صبحي”.
في تلك الفترة ينضم “صبحي” وشقيقه “جمال” لكتيبة “حزب النجاة”، بحيث باشرا تدريباً متقطعاً على الأسلحة، بسبب ندرة الذخيرة، حيث كان من الصعب حصول الفلسطينيين على سلاح وذخيرة، في مقابل تدفق هجرة السلاح إلى العصابات الصهيونية، بمساعدة الإنكليز بطبيعة الحل، والذين لم يغضوا الطرف عن تهريب أحدث الأسلحة لليهود، بل ساهموا في السماح لهذه العصابات بالانضمام إلى قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
وما بين تجوالها مع “صبحي” وحكاياته، تحكي العامري عن الواقع الفلسطيني المليء بالتناقضات ما قبل النكبة، حيث الانقسام ما بين أنصار النشاشيبية والحسينية، نسبة لعائلتي النشاشيبي والحسيني، ومواقف قياداتهما المتناقضة، وعن وجود الكثير من العمّال المصريّين في يافا، وخاصة في الأحياء الفقيرة منها، وهو ما كان منذ احتلال إبراهيم باشا المصري لفلسطين في العام 1831، والذي استمر لتسعة أعوام بحيث فرّ وجيشه مهزوماً عائداً إلى مصر في العام 1840، إلا أن العديد من العساكر وعائلاتهم آثروا البقاء في فلسطين.
ولم تغفل الروائية الحديث عن الجانب الحضاري في يافا، عبر استذكار مهرجان موسم النبي روبين، حيث كان عشرات الآلاف من الفلسطينيين والعرب يُحمّلون جِمالهم بكل ما قد يحتاجونه من طعام وشراب يكفيهم لأسابيع عدّة، قبل أن ينصبوا خيامهم في محيط المقام الذي يحمل اسم “روبين النبيّ”، في زخم ثقافي وروحاني يتواصل على مدار قرابة الثلاثين يوماً، وفي كل ليلة، فعلاوة على الاحتفالات الكشفية، تنتظم عروض سينمائية لأفلام مصرية في الهواء الطلق، وعروض لمسرحيات من لبنان وسورية، وأخرى لفرق موسيقية حلبيّة، علاوة على حفلات زفاف تتراوح ما بين حقيقة ومحاكاة، وحلقات للصوفيّين والدراويش يردّدون فيها الأذكار، ويقدمون رقصاتهم الدينيّة.
وتحت عنوان “استعراض الرعب في القدس”، وفي 8 نيسان 1948، بدأت سرديّة احتلال فلسطين ونكبة أهلها، ففي ذلك اليوم “استيقظت فلسطين ومعها العالم العربي على الخبر المفجع: عبد القادر الحسيني، قائد الجهاد المقدس، الذراع العسكري للحزب العربي الفلسطيني، استشهد في معركة القسطل قرب القدس.. بعد سنوات من ذلك اليوم، سيكشف التاريخ أن القائد المحبوب عبد القادر الحسيني، ابن محافظ القدس، كان قد أصيب في المعركة، وعندما استجدى من عدوّه شُربة ماء، تلقى رصاصة في رأسه عوضاً عنها”.
“وفي صبيحة التاسع من نيسان، وغير بعيد عن قرية القسطل، هاجمت قوات أرغون وليحي والهاغاناه قرية دير ياسين، وبدم بارد، قنصت 250 مدنياً فلسطينياً، بينما هم يفرّون للنجاة بحيواتهم، أما الذين نجوا من بشاعة المجزرة، فقد حُمّلوا في شاحنات، وعُرضوا في موكب جاب شوارع الأحياء العربية في القدس، متسبباً في موجات من الفزع عبر فلسطين بأكملها”.
تفرّقت عائلة “صبحي”، فأُمه وأخواته لجأن إلى نابلس، حيث يقطن أحد أخواله، أما شقيقه “جمال” فاستشهد وهو يدافع عن الحيّ، فيما أصيب عمّه “حبيب” إصابة بالغة، أما والده فاختبأ في بيّارته ونجا.. “صبحي”، الذي اتهم بسرقة “البدلة”، تم احتجازه، ومن ثم أفرج عنه، وأعيدت له “البدلة” دون بنطالها، في وقت كانت بدأت فيه العصابات الصهيونية بالاستيلاء على بيوت يافا، بعد هدم جزء منها، كي لا يعود أصحابها إليها.. سرقوا الممتلكات، والمكتبات، وحولوا يافا إلى “غيتو”، في حين ظهر بنطال بدلة “صبحي” يرتديه “فواز” عميل الهاغاناه، ليهوي الأول على رأس الثاني بصندوق برتقال كان يجلس عليه، قبل صراع بالأيدي على البنطال انتهى به مُمزقاً.
أما عائلة “شمس”، ابنة قرية “سلمة”، فتم تهجيرها من بيتها كغيرها من العائلات، لتلجأ إلى مزرعة خضار شرق اللد، وهناك عثروا على بقرة عرفوا من آخرين أنها ملك لمن يُكنّى بـ”أبو محمد اليازوري”، وأنه تركها وهجر البلاد إلى شرق الأردن، فما كان منهم إلا ذبح البقرة لسد جوع جموع المهاجرين، وخاصة الأطفال، قبل أن تدهم المنطقة ميليشيات يهودية، إثر ادعاء أحد المستوطنين أن العرب سرقوا بقرته، فيعتقل والدها “خليل”، ويختفي أثر والدتها وشقيقها إثر الحدث الجلل، فتبقى وحيدة رفقة شقيقتيها، لتتبنّاهم عائلة من اللد، لأب مسلم مصري الأصل وأم عربية يهودية، وهو ما لم يكن حدثاً عابراً.
ويتأرجح السرد، كما تتأرجح مصائر الفلسطينيين في تلك الفترة، فيعود الحديث عن “صبحي” ووالده “إسماعيل” الذي يحمي بيّارته بالبقاء فيها، قبل أن يستقبل “خليل” والد “شمس”، وكان يعمل في البيّارة سابقاً، بعد الإفراج عنه إثر اعتقاله بتهمة “سرقة البقرة اليهودية”، فيبدأ رحلة البحث عن عائلته، ليكتشف أن بناته حصلن على الهويات الحُمر دونه، بعد تبنّيهن من الشيوعيَّيْن “عبد” و”رفقة”، وأن عليه أن يغادر البلاد، التي دخلها “تهريباً”، كي لا يُعتقل ثانية، فيغادر رفقة ابنتيه دون “شمس” التي تتزوج شقيق “صبحي”، فيما يهجر “الميكانيكي الفلتة” البلاد هو أيضاً.
“بدلة إنكليزية وبقرة يهودية”، أكبر من مجرد قصّة حب بين طفلين، بل هي عبارة عن حاضنة سردية لتوثيق شيء من السرقة الكبرى للبلاد، فيما تبقى “البدلة الإنكليزية” دون بنطال، ممزقة كما “صبحي” وأحلامه من ارتباط كان يعدّ له نفسه وبدلته كاملة، وكأنما “البدلة” هي فلسطين التي ستبقى العودة إليها حلماً، ولو تمزق جزء لا تستقيم دونه، بل هو الجزء الذي يستر عورتها.