أباهر السقا يكتب /حرب الإبادة على قطاع غزة كاستمرارية للنكبة
حرب الإبادة على قطاع غزة كاستمرارية للنكبة
أباهر السقا
أكاديمي من فلسطين
40 يوما مرت على بدء حرب الإبادة على قطاع غزة، في اللحظات التي تكتب بها هذه المساهمة تكون الآلة الحربية الاستعمارية «الإسرائيلية» قتلت أكثر من 11500 فلسطيني بينهم 4710 أطفال و3003 نساء وأكثر من 3640 مفقودا تحت الأنقاض بينهم 1770 طفلا، عبر قصف شرس للبيوت والأبراج السكنية، والمستشفيات، ودور الأيتام والملاعب، والمدارس، والجامعات، والجوامع، والكنائس، والأماكن العامة والبنى التحتية ومحطات تحلية المياه ومولدات الطاقة وألواح الطاقة على العمارات وخزنات المياه، لغرض القتل المتعمَّد لكل الفلسطينيين الذين يمكن قتلهم، حتى أنها تستهدف الموتى في المقابر.
وجرى تدمير وإبادة أحياء كاملة في عملية منظمة وممنهجة للإبادة الحضرية، وعمل حزامات نارية ـ أخاديد تحفر عبر القصف في الأرض ـ أي استمرار القصف على مجموعة من العمارات والبيانات حتى تحويلها إلى خرائب، والذي يؤدى إلى تضرر مئات آلاف البيوت وتكسير النوافذ وتصدعات وتحويل جزء كبير من الشقق والبيوت لتصبح غير قابلة للسكن، بالتوازي مع قطع الكهرباء والمياه والوقود، وخدمات الطوارئ، وكافة الخدمات الضرورية الأخرى والمنشآت المدنية والتجارية وقصف المتاجر والمصانع والمخابز. كما دمرت «إسرائيل» أجزاء من أحياء غزة القديمة، وأبادت أحياءها الغنية والأسواق.
وقام جيش الاستعمار بارتكاب عشرات المجازر بحق عشرات العائلات ومسحها من السجل المدني. وتهجير أكثر من مليون ونصف فلسطيني من مدينة غزة وشمال القطاع؛ وإلقاء المنشورات عليهم وإرسال رسائل صوتية على هواتفهم تطالبهم بالذهاب إلى الجنوب، ثم قيام الطائرات بقصف قافلات النازحين في اتجاه الجنوب كما حدث في خانيونس، وقتلت حتى الآن المئات منهم سواء في القافلات أو في البيوت التي لجأوا اليها.
هذه الحرب الأخيرة غير المسبوقة عابرة للطوائف، وعابرة للأجيال وعابرة للشرائح الاجتماعية الاقتصادية، أضحى بسببها جزء كبير من السكان الذين غالبيتهم أصلا من أبناء اللاجئين لاجئين مجددا في جنوب قطاع غزة. وللتذكير أكثر من 75 في المائة من سكان قطاع غزة هم من اللاجئين الذين طردوا بالقوة من المناطق المتاخمة للواء غزة من المناطق الساحلية لجنوب فلسطين والمناطق الداخلية من بئر السبع والنقب. ومن المناطق التي أقيمت على أنقاضها المستعمرات التي تحيط بقطاع غزة الحالي المجتزأ من لواء غزة والذي تمت مهاجمتها من قبل المقاومة الفلسطينية ومن بعض السكان الذين قد تعود أصول بعضهم إلى هذه القرى الذين اقتلع منها أجدادهم في دمرة، وهربيا، وبربرة. هذه الحرب الجديدة تأتي بعد حصار مستمر من قبل السلطات الاستعمارية منذ 16 سنة، وشنت فيها عليهم خمس حروب راح ضحيتها أكثر من 6 آلاف شهيد.
هذه الممارسات التي تحدث أمام أعيننا اليوم تذكرنا بها وما تصريحات قادتها خلال اليومين الأخيرين بالبقاء في قطاع غزة والتلميح بالتوسع داخله، وإقامة مناطق عازلة، وتهجير السكان وقتلهم في حرب إبادة جماعية هي استمرارية للنكبة المستمرة في كل فلسطين
يردد الأهالي في قطاع غزة «انهم ناموا في 7 أكتوبر 2023 وصحوا في عام 1948» للدلالة على العودة بالزمن لـ 75 سنة مضت، وخشية أن يتم تهجيرهم وطردهم بالقوة كما جرى عام 1948، مستذكرين المجازر التي ارتكبتها القوات «الإسرائيلية» في غزة ورفح والشجاعية وخانيونس. كإشارة لخوفهم من العمل على استكمال مشروع تهجير الفلسطينيين وسيرورة التطهير العرقي والذي كان من نتاجه تهجير 190 ألفاً منهم إلى قطاع غزة في نكبة 1948. وكذلك خلال سنوات 1947 ـ 1949 عند احتلال مدينة بئر السبع تم تهجير سكانها إلى كل من الخليل وقطاع غزة. وفي تشرين الثاني 1948، بعد احتلال البلدتين الجنوبيتين أسدود والمجدل على حدود قطاع غزة تم تهجير سكانهما أيضا إلى القطاع، كما جرى تهجير الآلاف من منطقة النقب في اتجاه القطاع. وفي الخمسينيات طرح آلون مشروعاً لنقل أعداد من اللاجئين من قطاع غزة إلى ثلاث مناطق في منطقة العريش المصرية، بمرحلة اولى تضم 50 ألفا. وبعد ضغوطات مورست على مصر عام 1953؛ جرى اقتراح مشروع توطين في شمال غرب صحراء سيناء والذي جوبه بقوة من قبل الفلسطينيين في قطاع غزة وأدى إلى تصادم مع القوات المصرية، ثم تلتها مجزرة خان يونس في تشرين الثاني 1956 حيث قام الجيش «الإسرائيلي» بارتكاب مجزرة في خان يونس راح ضحيتها أكثر من 250 شهيداً، وبعد تسعة أيام من المجزرة الأولى، نفذ مجزرة أُخرى، راح ضحيتها نحو 275 شهيداً في خان يونس نفسها. وبعيد احتلال قطاع غزة في حزيران 1967، قام شارون قائد المنطقة الجنوبية في الجيش «الإسرائيلي» عام1971، بحملة دموية لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة في القطاع وطرح مشروعاً لاقتلاع 12 ألف لاجئ من مخيمات القطاع ووضعهم في محطات لجوء أخرى في صحراء سيناء. وقام بتهجير آلاف الفلسطينيين نحو مناطق أخرى خارج المخيمات ومنها ضاحية الشيخ رضوان الحالية.
فمشاهد إخراج الناس تحت ضغط القصف من شمال قطاع غزة والمناطق الشرقية لمدينة غزة بعد أن طلبت السلطات الاستعمارية منذ أكثر من شهر من السكان الذهاب إلى نحو جنوب قطاع غزة، تأتي ضمن خطط قديمة جرى إعادة استخدامها، حيث يصرح بعض قادة وساسة «إسرائيل» سرا وعلانية عن مخططاتهم بضرورة إحياء الخطط القديمة بتقسيم القطاع ثم طرد السكان إلى سيناء، استمرارا لمخطط الترانسفير الذي يعتبر ركيزة أساسية للمشروع الاستعماري نفسه الذي بدأ بالتطهير العرقي في المستعمرة الأولى ـ 1948 وجاري العمل على تطبيقه في المستعمرة الثانية 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس).
واحدة من القضايا الملح التذكير بها هنا هو استمرارية النكبة، كحدث مؤسس ومرتبط بشكل بنيوي وممنهج في صلب سياسة دولة الاستعمار والتعبير عنه بارتكاب المجازر وطرد السكان. هذه الممارسات التي تحدث أمام أعيننا اليوم تذكرنا بها وما تصريحات قادتها خلال اليومين الأخيرين بالبقاء في قطاع غزة والتلميح بالتوسع داخله، وإقامة مناطق عازلة، وتهجير السكان وقتلهم في حرب إبادة جماعية هي استمرارية للنكبة المستمرة في كل فلسطين. هذه الممارسات تسقط كل المقولات المتداولة من أن قطاع غزة ليس جزءا من «السردية التوراتية الصهيونية»؛ في واقع الأمر، لم يكن يوما قطاع غزة خارج الدوغم العقدي الصهيوني الذي عبر عنه يعالون بعيد احتلال القطاع في 1967 ان «غزة مدينة شمشون ستبقى مدينة إسرائيلية» ومثله قال موشيه دايان بعد احتلال قطاع غزة «نستعيد مدينة من تراثنا اليهودي».
فمنذ إعادة انتشار قوات الاستعمار في 2005 وتفكيك المستوطنات التي كانت تحتل 45 في المائة من مساحة القطاع وسحبها ما يقارب 6000 من المستوطنين الذين كان يحميهم 15000 جندي.
ثمة دعوات مستمرة لإعادة هندسة قطاع غزة ليس فقط عبر السيطرة عليه برا وجوا وبحرا، وتحويله إلى سجن، وإنما للعمل على إيجاد ترتيبات تقضم المزيد من أراضي القطاع، وتظهر تصريحات قادة جيش الاستعمار الأخيرة أنه سيجري احتلال القطاع لفترة طويلة، وأن ثمة رغبة بتطبيق هذا النموذج ليمكنه من تنفيذ كل أشكال التهجير وطرد السكان وتبديل المشهد الجغرافي والطبوغرافي عبر تخليق منظومة تقنية؛ وإيجاد صيغ تحول دون السيطرة على السكان لأنه غير معني بذلك بسبب فشل تجربته خلال فترة احتلاله المباشر على القطاع من 1967 ـ 2005، ولكن عبر فرض السيطرة الأمنية على الأرض وإيجاد هيئات لإدارة السكان إما عبر اتفاقيات تنسيق أمني أو ترتيبات دولية أو إقليمية يجري العمل عليها وفقا لأمنياته. ما يحدث اليوم يذكرنا بالطبيعة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية التوسعية لهذا الكيان ويقوض كل المقولات والمشاريع عن إمكانية إيجاد حلول دون أن يتم تفكيك المشروع الاستعماري نفسه.
أكاديمي من فلسطين