ثقافة وفنون

لا مكان للعقل… كيف؟

لا مكان للعقل… كيف؟

إبراهيم عبد المجيد

كل الأفكار الفلسفية جاءت نتيجة التأمل في العالم. والغائب من العالم حمل عنوان الميتافيزيقا، أي ما وراء الطبيعة. وبشكل خاص الإله، وسؤال هل يوجد خالق لهذا العالم أم أنه نبت طبيعي وحده. ارتاح الإنسان البدائي إلى وجود خالق وظهرت الديانات. دون يوم للحساب يزداد الظلم، والإقرار بيوم للحساب بعد الموت، يعني كثيرا من العدل في الدنيا. اختلف الفلاسفة في رؤية العدل. من أرسطو إلى الآن. انقسموا بين الطبقات الحاكمة، وكيف يكون للعدل تجلياته، من رقابة شعبية أو رقابة سلطوية. العالم يتقدم رغم كل الأفكار، حتى من رأى الليبرالية نهاية العالم، جاءت الليبرالية بصور متوحشة من التسلط الاقتصادي، أضاعت الفكرة التي قامت على الحرية. على الجهة الأخرى كان التطور في الآداب والفنون قرينا، ومتمردا كثيرا على هذه الفلسفات التي أشعل بعضها الحروب، حين اعتنقته سلطات كالنازية والفاشية، التي لم تر قيمة للطبقات الشعبية ولا لشعوب أخرى.
قدامي الفنانين لم يتوقفوا عند مصداقية الأفكار أو عدم المصداقية، فرسموا لوحات للقصص الدينية في التوراة وللمسيح والعذراء، وقبلها طبعا لآلهة اليونان ومصر وبابل وآشور وأرض كنعان وآلهة الهند والصين وغيرها في كل الدنيا، بل في العصر الحديث جاءت السينما وقدمت أفلاما رائعة عن ذلك، رأيناها في صبانا وشبابنا، مثل «سليمان وسبأ» و»الوصايا العشر» و»سالومي» وغيرها، واستمر الأمر ولم ينقطع حتى الآن. فقط هو الدين الإسلامي الذي حرم فيه أهل السُنّة تشخيص الرسول محمد أو الصحابة، بينما فعل الشيعة ذلك فى مسلسلات إيرانية حديثة. لم يظهر الرسول محمد مثلا في فيلم «الرسالة» لمصطفى العقاد وإن ظهر فيه بعض الصحابة. في مصر وغيرها الأمر غائب تماما. أذكر مسلسلا مثل «محمد رسول الله» في بداية الثمانينات كان فيه صوت عبد الله غيث يرتل أقوال الأنبياء في عبارات من نوع «وقال إبراهيم..» و«قال موسى..» وقال عيسى..» وقال «محمد…» إلخ، لكن لا صورة لأي منهم. واذكر اجتماعا مع فضيلة شيخ الأزهر منذ حوالي عشر سنوات لعدد من الكتاب والفنانين وكنت بينهم، في محاولة للحصول على تصريح بتصوير الصحابة ولم نصل إلى شيء.
لا أنسى ليلة كنت فيها مع زملائي في العمل بالثقافة الجماهيرية، وكنا نقيم شادرا في حديقة الدراسة التي شغلها الأزهر الآن في شهر رمضان، نقدم فيه المغنين القدامي والجدد ولاعبي السيرك وغيرهم من الفنانين، وكنا نتناول إفطارنا في أحد مطاعم منطقة الحسين، قبل أن ننطلق إلى العمل بعد الإفطار، وكيف قلت لهم في ذلك اليوم إن هناك أزمة في مسلسل «محمد رسول الله» وكيف هو مهدد بالإيقاف. سألوني كيف. قلت لهم أنا قادم من مبني الإذاعة والتلفزيون، حيث كنت أسجل قصة قصيرة في البرنامج الثاني، وعرفت أن المحاسب المالي قرر صرف أجر، لكل من تحدث عبد الله غيث نيابة عنهم باعتبارهم أصحاب القول، فانهارت ميزاينة المسلسل. طبعا ضحكنا تلك الليلة. كان السبب في ما قلت، إني بعد أن سجلت قصتي وجلست مع المرحوم شوقي فهيم المذيع والمترجم، حدثني عن المحاسب المالي الطيب الذي سجل لتشيكوف أجرا على قصته القصيرة التي ترجمها كاتب مصري، وانتظر تشيكوف لكنه لم يأت.

ما نراه في حالة الإعلام يرسخ معنى العبث الغائب، ويعيد إلينا زمنا انتهى بهزيمة 1967 التي كنا قبلها لا نعرف غير ثلاث صحف هي «الأهرام» و»الأخبار» و»الجمهورية» وأضيفت إليها صحيفة «المساء» في الوقت الذي تم فيه منع دخول أي صحف أجنبية إلى مصر، فكان سعيد الحظ مثلي يرى بعضها مع بعض البحارة العائدين من أوروبا، حين كنت أعمل في شركة الترسانة البحرية فى الميناء.

تداعت عليّ الأفكار وكانت النكتة التي قلتها وضحكنا. كان للعبث أسباب مقنعة، بل ونادرة. والعبث في الفنون نفسه فكرة جاءت من الفلسفة الوجودية أكثر من غيرها، فلا معنى لهذا العالم، والحياة رحلة صعود إلى السماء على سلم بناه الإنسان من قناعاته وأفكاره، لكن الرحلة لا تنتهي أبدا، كما رأى شوبنهاور، الأب القريب للوجودية قبل سارتر وغيره. مؤكد لعبت الحروب الكبرى، وقبلها التغيرات المناخية التي أضاعت شعوبا وقبائل، وأراضي صارت أنهارا أو تفجرت بينها الجبال، وغير ذلك مما جرى ليصبح العالم على ما هو عليه، وإن كان لا يزال يعاني من الحروب وتغيرات المناخ نتيجة للاحتباس الحراري وغيره، ومن ثم يبدو أنه لا سبيل للسيطرة على العالم أو المستقبل. كلنا كنا نتوقع أن تقوم إسرائيل بالهجوم على غزة، لكن أن يوافق العالم، وأعني بالعالم حكامه، على الإبادة الجماعية تكفيرا عن ذنوبه في حق اليهود، فيدفع ثمنَ الذنوب شعب هو صاحب الأرض، أمر لم يكن يخطر على البال بهذه الكثافة، مهما بدا أنهم يغيرون من بعض آرائهم الآن. في الأمر صدمة، نعم أو ربما. لكنه العبث في تجلياته الحمقاء، ولا بد من رؤية جديدة للعالم ستظهر في أفكار الفلاسفة والمفكرين وهم يرون هذا الإجماع على الشر المطلق في عالم صار هاتفا محمولا فلا شيء يخفى على أحد. يختلف الأمر في الحياة المصرية التي يبدو أنها صارت صفحة بيضاء بعد ما أنتجته من فكر وفلسفة وما تنتجه. هو اليأس وربما الضحك في النهاية، انتظارا ليوم تكتب فيه القصص والأشعار والروايات والأفلام، وإن بدا للأسف بعيدا جدا، فكل شيء تحت السيطرة. يمكن أن تنشر كتابك خارج مصر، لكن لا يمكن أن تنفذ مسرحية أو فيلما. القصة أو الرواية أو الشعر نتاج فردي، بينما بقية الفنون تدخل فيها الجماعة من منتج ومؤجر صالة عرض وممثلين، يمكن أن يقبلوا الأدوار وغير ذلك.
ما نراه في حالة الإعلام يرسخ معنى العبث الغائب، ويعيد إلينا زمنا انتهى بهزيمة 1967 التي كنا قبلها لا نعرف غير ثلاث صحف هي «الأهرام» و»الأخبار» و»الجمهورية» وأضيفت إليها صحيفة «المساء» في الوقت الذي تم فيه منع دخول أي صحف أجنبية إلى مصر، فكان سعيد الحظ مثلي يرى بعضها مع بعض البحارة العائدين من أوروبا، حين كنت أعمل في شركة الترسانة البحرية فى الميناء. اتسع الأمر قليلا بعد الهزيمة أو النكسة، ووصلت الكتب مهربة من بيروت، ثم اتسع أكثر مع الرئيس السادات، إلا أنه سرعان ما عاد إلى ما قبل وأعلن أن الديمقراطية لها أنياب، وأغلق كل الأبواب والمنافذ، فحدثت هجرة كبيرة لكثير من الصحافيين والمثقفين عادوا مع حسني مبارك واتسع الأمر أكثر بكثير، لكن ظلت هناك خطوط حمر، فحدثت ثورة يناير/كانون الثاني التي تم التآمر عليها، ووصلنا إلى ما نحن فيه مما هو أكبر تسلطا من أيام عبد الناصر. تجليات ذلك كثيرة من حجب مواقع وصحف وغيرها، لكن السؤال الذي يؤثر سلبا على الفكر والفلسفة هو كيف صار الخطأ حقيقة.
الأمثلة كثيرة على مشاريع عظيمة نشرت صورها لكن الحالة الاقتصادية تراجعت بشكل لم يحدث من قبل. ومثال مضحك مثل اعتبار من ذهبوا إلى الانتخابات كثافة حقيقية، وكثيرون منهم مأخوذون من أعمالهم جبرا، أو فقراء تم دفع أموال لهم أو طعام، وهؤلاء زاد عددهم بكثافة لم نعرفها من قبل. الإعلام الرسمي يعتبر هذا انتصارا وكأنه غائب عن الإعلام غير الرسمي في السوشيال ميديا. والسؤال هنا هل سينتج هذا الحال فكرا فلسفيا؟ أم مقالات سياسية بين الإدانة والموافقة. هل هذا أمر سيدعو إلى التأمل بمعناه العميق، أم هو تكرار عرفناه كثيرا يستدعي الصمت فيكون الكتاب صفحة بيضاء؟ إذا اعتبرنا ذلك شكل العالم الحقيقي كما يقول الإعلام الرسمي فليس أمام من يفكر في قضايا فلسفية كبري غير الصمت والدهشة، وإذا اعتبرناه حيلة سياسية فلن ينتج إلا اليأس. إن ما يحدث في غزة سيصبح ملهما لأفكار جديدة رغم أنه محرقة كبرى، لكن لن يكون ما يحدث في مصر ملهما للفكر. سيظل مفكرونا يستلهمون ما يحدث في العالم، رغم أنه في يوم ما، كان ما فعله قدماء المصريين من أفكار عن العدل ملهما للعالم كله. رغم ضخامة الأمر إعلاميا إلا أنه صغير معتاد يأخذك إلى سياسة معادة حتى الملل، ويبعدك عن أي تأمل إنساني فهي حرب على العقل، وسيكون كتابك صفحة بيضاء.

روائي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب