ثقافة وفنون

الشجاعة والخوف في ميزان التردد عند بهاء طاهر

الشجاعة والخوف في ميزان التردد عند بهاء طاهر

نعيمة عبد الجواد

الخوف شعور طبيعي ينتاب جميع أطياف البشر، وكثيرًا ما يقف حائلا بين المرء وتحقيق أهدافه، حتى ولو كانت على المدى القصير. والمفارقة أن الخوف يعتبر نقطة تحوُّل فارقة؛ إذ قد تفضي لحظات الخوف إلى تدمير الذات، أو قد تتسبب في بلوغ الفرد أقصى مراتب الشجاعة.
ومما يثير العجب معرفة أنه لا يوجد فرق بين الشجاع والرعديد إذا تملُّك الخوف كليهما؛ ففي تلك اللحظة يصبح الجميع على قدم المساواة، والفارق أن الشجاع يقرر مجابهة مخاوفه وهزيمتها، في حين يقنع الرعديد بالعيش داخل قوقعة النفس، مع تفضيل ترك الأمور تتلاطم خارج حدود سيطرته. ناقش ذاك الأمر الفيلسوف اليوناني «إبيكتيتوس» Epictitus (50-135م) الذي ولد عبدا، لكنه استطاع مجابهة أخطار الحياة وعبوديته، فبلغ أرقى درجات التعلُّم وأرفع الدرجات الاجتماعية.
ومن أقواله الخالدة التي توضِّح طبيعة الخوف: «كلَّما أرى شخصا يعاني من العصبية، أفكِّر، قائلا لنفسي، ما عساه يتوقَّع من ذلك؟ فلو لم يضع نصب عينيه الأشياء الخارجة عن سيطرة البشر، لتلاشى توتُّره على الفور.» أي إن التوتُّر والخوف لا طائل منهما، لأنهما سبيل الفشل إذا لم تتم مجابهتهما والجهاد في الإفلات من نطاق سيطرتهما.
وقد يصبح الخوف مفيدًا إذا اتُّخذ وسيلة لتدريب المرء على مجابهة أحلك المواقف؛ فالمخاوف التي تحصر الإنسان في دائرة مغلقة، تدفعه للتفكير في وسائل شتَّى للخروج من إطار عالم متناهي الصغر، وفي نفس الوقت تكدِّس لديه مخزونا من ردود الأفعال الجاهزة عند مجابهة مواقف شبيهة مستقبلا. وأكَّد تلك النظرية الفيلسوف الروماني «سينيكا» Seneca (54 ق.م. – 39م) بقوله: «من يتوقَّع حدوث المشكلة يقضي على وقعها القوي حالما تحدث»؛ أي إن توقُّع المشكلة يلهم الفرد الحلول ويمكنه من الصمود. فالمرء يجابه بشجاعة المواقف، التي أعد نفسه لها مسبَّقًا، حتى ولو درَّب نفسه على الصمود عند خوض المعاناة. ومن لا يُعِد نفسه، يصاب بالذعر عند مجابهة أتفه المواقف. ولهذا يجب أن يتأكَّد المرء ألَّا يفاجئه موقف، وأن يتوقَّع دائمًا حدوث الأسوأ، وأن يعزز توقعه مجابهة السوء بكل شجاعة. علما أن مجابهة المجهول هي الإحساس بالروعة عينها؛ لأنها تحفِّز المرء على أن يشعر بقيمته ومدى شجاعته وقدرته على تحدِّي الظروف. وبهذا يتحول الخوف إلى ساحة تدريب كبرى، تعدّ المرء وتكسوه خبرة العليم، بدلا من الوقوع في نفس الخطأ، وإن كان بصورة مختلفة، مرارا وتكرارا، وفي كل مرَّة يشعر وكأنه يجابه الموقف لأول مرَّة، وهنا مكمن الفشل.
على صعيد آخر، نجد أن الفشل في مجابهة المخاوف هو لون من ألوان التردد، الذي ينجم عنه التسويف والتواني في مجابهة المواقف، حتى ولو استشعر المرء في نفسه القدرة على خوض المشكلة عندما واتته الشجاعة للاعتراف بمخاوفه أمام نفسه.
للتردد آثار مدمرة ليست فقط على الفرد ذاته، بل تشمل المحيطين به أيضا، عند عدم القدرة على الإمساك بزمام مجابهة المخاوف. وأبرز مثال على ذلك مسرحية «هاملت» للكاتب المسرحي الشهير «وليم شكسبير» William Shakespeare (1564-1616م)؛ فبسبب تردد الأمير «هاملت» في مجابهة عمه، والأخذ بثأره منه لقتله والده، تم قتل جميع المحيطين به وتدميرهم؛ فأصاب الجنون خطيبته، وقُتلت أمه مثلما قتل أعز أصدقائه، ناهيك عن استمرار عذابه النفسي وجلده لذاته، مما فاقم من شعوره بالعجز والخوف.
وعلى نفس المنوال، تكرر الوضع في رائعة الروائي المصري «بهاء طاهر» (1935-2022) «واحة الغروب» التي نالت «جائزة بوكر الرواية العربية» عام 2008، في أوَّل دورة لها، وكأنها قد ظهرت خصيصًا له؛ لمباركة شجاعته عند مجابهة ما مرّ به من مواقف أعادت صياغة شخصيته، وأكسبته هدوء نفسيا وسلاما روحيا انعكس على كل من حوله.
فقد ولد «بهاء طاهر» في مرحلة من الحراك السياسي، وتحديدًا في أواخر عهد الملكية وقيام ثورة 1952 التي أنهت عقودا من الاحتلال والتدخُّل الأجنبي. ودأب «بهاء طاهر» على نُصرة المواقف الداعمة للحرِّيات والرافضة لجميع أشكال القمع. لكنه تعرَّض للتنكيل به في حقبة الرئيس السادات، مما جعله ينتقل من مصر للعيش في جنيف في سويسرا لسنوات طويلة، مع الاحتفاظ بعمله مترجما، وكتابة روايات عميقة المعنى، جريئة المحتوى، ذات أثر إنساني بالغ، مع الاحتفاظ بسهولة اللفظ ووضوح المعنى، والتأني الشديد في الكتابة حتى لا تشوب أعماله شُبهة ترهُّل. مما قلل من إنتاجه الأدبي؛ إذ بلغ ست روايات فقط، وإن كانت جميعها بمثابة علامة فارقة، داعمة لحرية الفكر، منادية بتحرر الروح من قيود الخوف والتردد.
جسدت رواية «واحة الغروب» لحظات الصراع النفسي في أوقات الخوف والتردد، ولهذا بُنِيّت على شكل حديث مع النفس متعدد الأصوات، يروي كل فصل من فصولها إحدى الشخصيات، حتى ولو كانت ثانوية. وتسرد الرواية قصة «زاوج» الشرق بالغرب وصدامهما مع الثقافة الأصيلة للشعوب، من خلال سرد قصة الضابط المصري «محمود عبد الظاهر» الذي آمن بثورة عرابي، وأراد أن يحرر روحه من التردد والخوف، الذي جعله دائم الشعور بالحزن وعدم الرضاء عن ذاته. وكذلك الخوض في زواجه من «كاثرين» الأيرلندية التي تكبره بسنوات قليلة، وتختلف عنه في كل شيء؛ فهي متعلمة ومثقفة وتمتاز بالشجاعة عند التعبير عن نفسها وعن مواقفها، وإصرارها على تتبع تاريخ وآثار الإسكندر الأكبر المولعة به. وعلى الرغم من نعتها بالمجنونة، إلا أنها تواصل بحثها دون تواني، وتتحمل بشجاعة تبعات زواجها من الانهزامي «محمود» الذي تنصَّل من مناصرته لثورة عرابي، وأهدر عشقه للمرأة الوحيدة، التي أحبها، وذلك لعدم قدرته على الاعتراف لها بحبه؛ لأنها جارية، مما دفعها لتركه بلا رجعة. ومن ثمَّ، يتفاقم لديه الشعور بعدم الرضا عن نفسه، فيجلد ذاته بجميع الوسائل، حتى ولو كان ذلك بزواجه من أجنبية انكليزية، وإن لم يتنبه إلى أن تلك الأجنبية هي أيضًا تأتي من بلد يحتلها الإنكليز على مدار قرون عديدة، لكن ذلك لم يقتنص من روحها.
وانتقال «محمود عبد الظاهر» للعيش في الواحات وسيلة منه للهروب من مجابهة نفسه، بالرغم من الادعاء بأنه يجاهد من أجل الوصول لمرحلة السلام النفسي ولم شتات الذَّات. لكن في تلك الواحة كل شيء مصيره الزوال والأفول، بما في ذلك زواج محمود، وأخيرا نفسه التي تزهق بفعل لغم في منجم. لكن قبل موته يكون قد أصاب كل من حوله بأضرار بالغة.
رواية «واحة الغروب» هي لقاء مع أدق أعماق النفس، ورسالتها أن من لا يستطيع مجابهة مخاوفه بقوة، مؤثرا التردد، يغدو أسيرا لدمار محتوم، وإن كان في الوقت ذاته يقذف بمن حوله في فوهة جحيم الدمار والزوال.

كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب